&

مطلع العام الحالي، صدر عن دار "مسكليانيّ التونسية كتاب حمل عنوان : »حياة الكتابة" . وهو يتضمن مجموعة من المقالات قام باخنيارها وترجمتها عبد الله الزماري، وفيها يروي روائيون معروفون قصتهم مع الكتابة. وأول هؤلاء هو ادورادو غاليانو الذي رحل عن الدنيا في عام 2015، تاركا قصصا تعكس أوضاعا سياسية واجتماعية في بلدان أمريكا اللاتينية التي خصص لها كتابا بديعا بعنوان : »الشرايين المفتوحة لأ|مريكا اللاتينية". وهو يشير إلى أن قصته"كرة القدم في الشمس والظل" التي كتبها لكي" يفقد محبو القراءة خوفهم من كرة القدم،ومحبو كرة القدم خوفهم من القراءة"، أنقذت حياة إنسان . ففي منتصف عام 1997، قامت عصابة من المسلحين باختطاف عضو في الكونغرس المكسيكي كان قد قرأ هذه القصة. وقد قامت هذه العصابة بتعذيب هذا الرجل بطرق وحشية حتى أنه أ شرف على الموت. وفي فترة من فترات الإستراحة ، شرع رجال العصابة في الحديث بحماس عن كرة القدم. عندئذ تدخل الرجل لكي يروي لهم قصة ادواردو غاليانو المذكورة. ومن فرط اعجابهم بالقصة، كفّ رجال العصابة عن تعذيبه، وتركوه محطما لكنه حيّ !;ويقول ادواردو غاليانو أن كتابه" شرايين أمريكا اللاتينية المفتوحة" الذي فضح فيه فساد الأنظمة السياسية ، واستبداد الحكام ، تمّ تداوله من قبل السجناء السياسيين في بلاده الأوراغوي بكامل الحرية لأن رقباء الحكم العسكري ظنوا أنه كتاب في علم التشريح الطبي !
وفي نص بعنوان"كتبي رفاقي العقلاء في عالم محافظ"، تقول الكاتبة التركية إليف شافاك إن طفولتها كانت عامرة بقصص عجيبة كانت تنسيها رتابة الحياة اليومية، وتخفف عنها ضغط مجتمع محافظ، مقيّد بتقاليد صارمة. وكانت تحب أن تقرأ كل ما يقع بين يديها من كتب. ومن بين الكتب التي سحرتها في تلك الفترة المبكرة من حياتها كتاب ضخم عن التفسير الإسلامي للأحلام. وقد أثبت لها هذا الكتاب أن "كلّ شيء مُتَاح للتفسير". كما أكتشفت إليف شافاك في سن المراهقة الكاتب البريطاني الشهير شارل ديكنز . وهي تقول إن روايته "قصة مديننتين" فتنتها لأنها وجدتها مختلفة عن كل الكتاب التي كانت قد قرأتها قبل ذلك. بل أنها وجدتها وثيقة الصلة بالحياة عموما، وبحياتها الخاصة أيضا. وفي خاتمة نصها، كتبت إليف شافاك تقول : » إن الكتب هي من غيّرتني، ومن أنقذتني،وأنا اعلم في قرارة نفسي أنه ستنقذكم أيضا".
ويتحدث الكاتب التركي أورهان باموق عن تأثير مدينة اسطمبول عليه، مفسرا سبب حضورها الدائم في أعماله. فهي ليست فقط مدينة طفولته، وإنما هي أيضا المدينة التي تعكس أكثر من غيرها تاريخ تركيا، والتحولات السياسية والإجتماعية والثقافية التي عرفتها بلاده منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية وحتى هذه الساعة. وفي روايته" متحف البر اءة" يقوم البطل في النهاية بوضع كل الأشياء التي جمعها أثناء جولاته الكثيرة في اسطمبول من صور فوتوغرافية قديمة، ومن مفاتيح، وفساتين، وأقلام، وألعاب لكي يضعها في متحفه الخاص ،ولكي تكون شاهدة عن قصة حب عاصفة عاشها في فترة شبابه. ويشير أور هان باموق أنه قبل أن يشرع في كتابة روايته المذكورة، تجول كثيرا في شوارع اسطمبول كما لو أنه لم يرها من قبل. وأثناء تجواله، كان يذهب إلى الأسواق القديمة حيث تباع الأشياء والملابس المستعملة. كما أنه جمع علب الدواء القديمة، ومنافض السجائر ،وبطاقات الهويّة، وجوارزات السفر.وهو يقول : » لقد أدركت أن جمع ا القطع الفنية للمتحف لا يختلف كثيرا عن جمع القصص والحقائق لتأليف رواية".
وفي نص آخر، يروي أورهان باموق أنه كان يفكر في فترة طفولته وشبابه الأول أن يكون رساما. لذا كان يحب أن يمضي أغلب أوقاته في الرسم. وقد شجعته عائلته على ذلك. بل أنها خصصت له "ستوديو" صغير في شقة باسطمبول مكتظة بالأثاث القديم. وقد قاده حبه للرسم إلى اكتشاف الفنان الألماني الكبير أنسلم كيفر الذي تجعلنا لوحاته ننظر إلى ّما هو أبعد من الكلمات". ويضيف قائلا بإن لوحات هذا الفنان "تقرأ مثلماتقرأ الكتب". لذلك نحن نجد أنفسنا ونحن ننظر إلى ما يرسمه من أشجار، ومن خطوط سكك الحديد، ومن جبال وكأنها" نصوص تحتبئ أسرارها خلف ذلك السطح المذهل النابض بالحياة مباشرة، ولو أن قراءة تلك الأسرار ليست بالأمر الهين طبعا".
وفي نص حمل عنوان"شهرزاد أمريكا اللاتينية، تروي ايزابيل الليندي، نجلة شقيق الرئيس الشيلي سالفادور الليندي الذي قتل في انقلاب عام 1973، قصتها مع الكتابة التي جاءتها متأخرا،وتحديدا عندما تجاوزت سن الأربعين. وفي بداية النص كتبت تقول : » غالبا ما يسألني الناس عن نسية الواقعيّ ونسبة المتخيّل .وبإمكاني أن أقسم لهم أن كلّ كلمة كانت حقيقية فالتي لم تحدث ستحدث بالتأكيد". لذلك هي لا تريم حدودا بين الواقع والخيال. وكانت ازابيل الليندي قد بدأت حياتها في عالم الصحافة. وبعد الإنقلاب العسكري عام 1973، هاجرت برفقة زوجها وأطفالها إلى فينيزويلا "البلد الأخضر الكريم". وفي مطلع عام 1981، تلقت خبر وفاة جدها الذي كانت تحبه كثيرا. ولكي تخفف عن نفسها ألم فراقه ، أغلقت باب غرفتها وشرعت في الكتابة "مثل مجنونة" . وظلت منصرفة إلى الكتابة إلى أن أنهت روايتها الأولى"بيت الأرواح" التي حققت لها شهرة كبيرة. وبعدها انفتحت شهية ازابيل الليندي للكتابة فراحت ت تكتب ن دون كلل لا ملل. ولكي تتخلص من رتابة الحياة، انفصلت عن زوجها لتعيش مغامرات جديدة تساعدها على تعميق تجربتها في الكتابة. وهي تقول بإن كل روايتها جاءت عاكسة لفترات وتجارب من حياتها، ومن حياة من عاشرتهم سواء في بلادها، أم في شمال كاليفورنيا حيث تقيم راهنا.
ويروي كازو ايشيغورو قصة كتابته لروايته" بقايا اليوم" التي جلبت له شهرة عالمية واسعة. وهو يقول بإنه أنهى هذه الرواية في ظرف أربعة أسابيع. وقبل ذلك، كان قد عوّد نفسه على تخصيص النصف الأول من اليوم للكتابة. لكنه عند شروعه في كتابة "بقايا اليوم" وجد نفسه مشدودا إلى روايته أكثر من أي وقت مضى. لذا لم يعد يخرج من البيت، قاطعا كل صلة بالعالم الخارجي.
وفي كتاب "حياة الكتابة" نصوص أخرى لماريو فارغاس لوسا، ولهاروكي ماروكامي، ولآخرين ،وفيها يروي كل واحد منههم بطريقة بديعة ومثيرة قصته مع الكتابة، كاشفا عن خفاياها وأسرارها.
&