طالما اتهم العالم الإسلامي بالإخفاق في احتضان الحداثة على الطريقة الغربية والتكيف معها. لكن كتابًا صدر حديثًا يدحض هذا الرأي، ويسرد قصة "التنوير الإسلامي" والتاريخ الحديث لمنطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك الحركات والتيارات التي تشكلت فيها والإصلاحات التي تم تطبيقها والثورات التي وقعت فيها ، وذلك اعتبارًا من بدايات القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا، مع ربط كل هذه الأحداث بالتعامل بين بلدان المنطقة والغرب.

إيلاف: يبدو أن هذا الكتاب أثار ضجة في العالم الغربي، لأنه كشف عن أمور كانت خفية، كما يبدو على هذا العالم، ولأنه يشرح النظرة الحقيقية التي شاهد بها العالم الإسلامي العالم الغربي في غفلة عن الأخير.

كشف الكتاب أمورًا كانت خفية في الغرب

صاحب هذا المؤلف الذي يقع في 398 صفحة كاتب بريطاني وصحافي ومؤرخ لمنطقة الشرق الأوسط اسمه كرستوفر دو بيليغ وهو يسرد قصته بلغة نثرية جميلة ليعطي فكرة كاملة عن التغيرات السياسية والاجتماعية التي شهدتها أرض الإسلام منذ حروب نابليون بونابرت وحملته في مصر اي منذ عام 1798 بالتحديد.

ورأى نقاد أن هذا الكتاب يغير الكثير من الأفكار المكتسبة التي يحملها الغرب عن المنطقة، ويكشف عن تفاصيل كانت مجهولة لدى الكثيرين عنها وعن موقف سكانها من الحداثة ومن التطورات التي جاء بها الغرب لاحقًا.

يعبّر الكتاب عن رأي الكاتب بأن تاريخ المنطقة الفكري رواه مؤرخون غربيون أو من يسميهم بالمنتصرين وآخرون مسلمون انقلبوا على دينهم.

ترحيب
يرى الكاتب أن المنطقة رحبت بالحداثة وبالقيم الجديدة التي جاء بها الغرب، ومنها تبني وسائل الطب الحديث – تم إنشاء كلية الطب في القاهرة في عام 1827 تحت إشراف الجراح الفرنسي أنطوان بارتيليمي كلو - ومنح المرأة حقوقها ثم تطوير الديمقراطية، لكنه ينبه أيضًا إلى أن أقليات في المنطقة رفضت ولا تزال ترفض هذه القيم الجديدة، وقد لجأت إلى العنف للتعبير عن موقفها في محاولة لنسف توجه هذه البلدان نحو الحداثة.

يركز الكاتب على ثلاث عواصم هي القاهرة – العاصمة الفكرية للإسلام، وإسطنبول: عاصمة الإمبراطورية العثمانية التي بسطت نفوذها في مناطق واسعة من أوروبا ومن آسيا، وطهران، وهي الأبعد بالنسبة إلى العالم الغربي بتقاليدها الشيعية المترسخة.

يقول إن العالم الإسلامي استقبل الحداثة بطريقته الخاصة على مدى القرنين الماضيين، وهو يرى أن هبوط الجموع إلى شوارع القاهرة وإسطنبول وطهران للاحتجاج والتظاهر ضد حكومات مستبدة خلال العقد الماضي مثلًا إنما عبّر عن أحلام بسطاء الناس من رجال ونساء بتحقيق الديمقراطية على الطريقة الغربية. ويشير الكاتب إلى أن العولمة تعني حتمًا تسلل الحداثة والتطورات التقنية والأفكار التجديدية عبر الحدود.

يذكر الكاتب أيضًا بأن العباسيين وفي الفترة التي يسميها الغربيون بالعصور المظلمة في قارتهم، كانوا منفتحين على العلم والفلسفة وكانوا الجسر الذي انتقلت بوساطته تفاصيل الحضارة الأغريقية القديمة إلى أوروبا ليكونوا بذلك وراء النهضة الأوروبية الحديثة. ولكنه يشير أيضًا إلى تراجع الإجتهاد لاحقًا لتحل محله فكرة التقليد فحسب.

أسماء
ضمن دو بيليغ كتابه أسماء عديدة لمفكرين ومحدثين وثوريين وناشطين ظهروا في بلدان الشرق الأوسط، منهم إبراهيم شناسي، الذي أدخل الصحافة إلى إسطنبول، وكان رائدًا في العصرنة، إضافة إلى كونه شاعرًا وصحافيًا مرموقًا. منهم أيضًا ميرزا صالح شيرازي، الذي كان أول صحافي في إيران، وهو صاحب كتاب سفرنامه، الذي سجل فيه انطباعاته عن دول غربية زارها خلال حياته. ومنهم قرة العين، وهي امرأة إيرانية، من طبقة النبلاء، تحدت زوجها، وتحولت إلى شخصية نسائية مرموقة، رغم أن حياتها انتهت بقتلها.

من الشخصيات الأخرى التي كتب عنها دو بيليغ شيخ الأزهر الشريف حسن العطار، وكان ممن سافروا بحثًا عن العلم في أوروبا، وواجه نوعًا من الصدمة في علاقته بهذا العالم المختلف، ولكنه اقتنع أخيرًا بأن منع الإسلام تشريح الجسم أمر خاطئ.

من الأسماء الأخرى رفاعة الطهطاوي، وهو أحد قادة النهضة الحديثة، وقد أشرف على ترجمة أكثر من ألفي كتاب من اللغة التركية إلى اللغة العربية. هناك أيضًا حكام وأمراء من أمثال الخديوي إسماعيل باشا، الذي ساند مبادرات التحديث في مصر من خلال إنجار مشاريع بنى تحتية، منها مستشفيات وخطوط سكك حديد، ثم شق قناة السويس.

ينطبق الأمر نفسه على الإصلاحات التي بدأتها التنظيمات العثمانية في تركيا اعتبارًا من عام 1839 ثم الحركة التي قادها الباب في إيران، وخليفته بهاء الله مؤسس البهائية.

طرح الكاتب أسماء أخرى للتعبير عن فكرته الخاصة بأن الإسلام تعامل مع الحداثة القادمة من الغرب بطريقة خاصة ضمنت احتواء القادم مع عدم التخلي تمامًا عن القائم.

في مصر ذكر عبد الرحمن الجبرتي، الذي ساءه دخول الفرنسيين مصر في عهد نابليون، وانتقد العديد من جوانب سلوكهم، ولكنه أقر لاحقًا بقدراتهم العسكرية والثقافية والعلمية التي جلبوها معهم.

وفي تركيا هناك السلطان محمود الثاني، الذي استبعد رجال الدين الرجعيين من حاشيته، وأسقط الموانع أمام التشريح، ودعا إلى اعتماد معايير النظافة والطب الحديثة.

وفي إيران ذكر الكاتب الأمير عباس ميرزا، الذي اعتمد على الفرنسيين والبريطانيين لتحديث جيشه، وأرسل شبابًا للدراسة في أوروبا، وكان أحدهم ميرزا صالح شيرازي.

رافضون
تحدث الكاتب أيضًا عن شخصيات أخرى أرادت طرح أفكار إسلامية بديلة للتعامل مع العالم الغربي، ومنها جمال الدين الأفغاني الذي تجول في بقاع العالم، لتطوير فكرة خاصة عن الإسلام المشترك، ثم حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر ومعه سيد قطب.

في إيران ظهرت شخصيات، مثل جلال آل أحمد، الذي كان شيوعيًا سابقًا، ثم وضع كتابًا يمكن ترجمة عنوانه "مصدومون من الغرب"، "مسمومون بالغرب" أو "وباء من الغرب".

ويرى الكاتب أن الأفغاني بكتابه هذا وكتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب، و"المعذبون في الأرض" لفرانتز فانون" كانت أكثر الكتب مناهضة للغرب.

درب التكفير
يعتبر آل أحمد أن عبادة الغرب للآلة نسفت القيم القرآنية التقليدية في أبعد القرى، وإذا ما أضفنا إلى ذلك إحساسًا شيعيًا قويًا بضرورة مقاومة الظلم، وهو ما عبّر عنه عالم الاجتماع الإيراني علي شريعتي ستكون النتيجة قيام ثورة آية الله خميني في عام 1979. في هذه الأثناء صادر مفهوم التكفير أفكار سيد قطب، حيث اعتمدتها حركة الجهاد التي نفذت عملية اغتيال السادات في عام 1981، ثم تبنتها حركة داعش أخيرًا.

ينبه الكاتب إلى أن سياسات الدول الأوروبية التي كانت تسعى إلى توسيع نفوذها في المنطقة أجّجت الحركة الوطنية التي مهدت لثورة أحمد عرابي في عام 1879 وإلى معارضة الأفكار الغربية وسعيها إلى فرض هيمنتها الاقتصادية.

بعد ذلك شجعت الحرب العالمية الأولى ظهور الحس والوعي الوطنيين في المنطقة، وأكدت مطامع الغرب في الأراضي وفي الاقتصاد على حساب حقوق شعوب المنطقة.

لكن التغييرات التي رافقت الحرب العالمية الأولى كانت مهمة بالنسبة إلى تركيا مثلًا، التي تم تجريدها من إمبراطوريتها، وتحوّلت إلى جمهورية علمانية تحت قيادة أتاتورك. وفي إيران ومصر توجّه رضاه شاه والعقيد ناصر في الاتجاه نفسه، أي إنشاء دول متطورة على الطريقة الغربية.

ظهور قوميات
يمر الكاتب في شيء من العجالة في الفصلين الأخيرين من الكتاب على الطريقة التي تعامل بها الإسلام مع القوى الأوروبية والاستعمارية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وهو موضوع صعب على أية حال. وشرح فيه الكاتب الأسباب التي تقف وراء سوء العلاقات بين المسلمين والغربيين في تلك الفترة، والتي أعقبتها، ومنها مطامع الغرب التي أثارت ردود فعل حادة بين جميع الفئات من رجل الشارع البسيط إلى النخب المتنورة. 

ويرى الكاتب أن المسلمين شعروا باستياء كبير لاستخدامهم بيادق جيوسياسية، ولقيام الغربيين برسم حدود اعتباطية لبلدانهم، وهو ما أجّج العديد من الحركات القومية في المنطقة، ومنها الحركة القومية التركية وحركة الإخوان المسلمين وحتى ثورة إيران في عام 1979.

أعدت "إيلاف" هذا التقرير نقلًا عن "سبكتاتور". الأصل تجدونه منشورًا على الرابط:

https://www.spectator.co.uk/2017/02/when-islam-was-a-byword-for-benign-enlightenment/