&
"الأعمال العظيمة تكتب حتّى في العتمة.وأنا مرتعب من فكرة أن يأتي يوم ما، فيه أكتب شيئا يكون مصيره النّهاية، والإهمال، وعدم الأهمّيّة مثل الثياب التي تتمّ مصادرتها في "أوشفيتز"، ويظلّ على صورة خَدَش عليه يواصل الكتابة" يانوس بيلينسكي
&
كان يانوس بيلينسكي (1981-1921(في سنّ العشرين لمّا بدأت بلاده، المجر، تعيش فواجع الحرب الكونيّة الثانية.فقد قام الجيش الألماني بآحتلالها، ثمّ نصّب حكومة موالية للنّازيّة. ومثل كلّ الشبّان المجريّين في تلك الفترة القاتمة، عاش بيلينسكي أيّاما عصيبة عرف فيها الجوع، والإهانات في بلاده التي تحوّلت مدنها وقراها إلى أنقاض بسبب المعارك المتواصلة، والقصف الذي يكاد يكون يوميّا. مع ذلك ظلّ محافظا على رباطة جأشه، وراح يبحث في تجربة الحرب القاسية والمريرة عمّا يمكن أن يعمّق نظرته لذاته، وللحياة بصفة عامّة. وفي ما بعد سيقول:”لقد أهدتني الحرب إمكانيّة خارقة لمعرفة نفسي". وكان على يانوس بيلينسكي أن يعيش تجربة أخرى سيكون لها تأثير كبير عليه إنسانا وفنّانا. فقد سيق مع آخرين إلى المعسكرات النّازيّة ليعيش أهوال الموت اليوميّ. وفي معسكر "أوشفيتز" الرّهيب أمضى أشهرا طويلة تحمّل خلالها أقسى أنواع العذاب. وفي ما بعد سيقول:”اليوم تحوّل معسكر أوشفيتز إلى متحف. على جدرانه يحضر الماضي. وبمعنى معيّن ، فإنّ هذا الماضي هو ماضينا جميعا بكلّ ثقله، ذلك الثّقل الذي هو غير محدود، ومتواضع في نفس الوقت، ومن الصّّعب ملامسته .ورغم أن هذا الماضي انتهى، فإنّه لا يزال متأصّلا فينا، ولا يزال جزءا من الواقع الذي نعيشه...إنّ أشياءنا الأكثر ألفة ، وكلّ ألأشياء التي نحتاجها في حياتنا اليوميّة ، وصولا إلى الملعقة التي من حديد أبيض، تعرّضت إلى مسْخ لم يُعرف من قبل. فمن ناحية ، تمّت إعادتها إلى وظيفتها الأولى -تماما مثلما هو ألأمر من قبل بالنسبة لأدوات التّعذيب. ومن ناحية أخرى، نفس الأشياء ،بما في ذلك أدوات التّعذيب ،أصبحت الأدلّة ألأكثر تعبيرا عن قرننا، القرن العشرين. جميعها تحمل علامات نفس المعنى الذي لا يمكن دحضه".وما يتوجّب قوله هو أن تجربة الحرب، وتجربة معسكر"أوشفيتز" لفتتا نظر بيلينسكي إلى الأشياء المهملة والمفقودة، وإلى الكائنات المهدّدة بالموت، والإنقراض.لذلك ستحضر تلك الأشياء، وتلك الكائنات في عالمه الشعريّ. وسوف تكون عنايته باللّغة كبيرة. وسوف يحاول من خلال كلّ كلمة ينحتها أن يعيد الحياة لعالم في طور الإحتضار، والذّبول.
محاولا التّعريف برؤيته لجوهر الكتابة، كتب يانوس بيلينسكي في "يوميّات شاعر" يقول:”من أيّ شيء يخاف الكاتب أمام الورقة البيضاء؟ وبماذا يخاطر عندما يكتب الجمل الأولى؟ هل بشيئ ربّما لا يمكن إصلاحه؟ في الحياة نحن متهاونون،وغير مبالين. ولماذا نحن نشعر بثقل المسؤوليّة في مجال الخيال تحديدا؟ هل لأن الكلمة المكتوبة تدوم في الزّمن أكثر من أفعالنا؟أنا لا أعتقد ذلك.إنّ الشيء الذي يجعل من الكتابة أمرا يثير الريبة والخوف هو أنها في الآن نفسه فعل، ومواجهة، وحكم. فهي إذن أقلّ وأكثر من حياتنا. ومن العقم أن نثير مواجهة بين الحياة والكتابة.إنّ الكتابة تَشَكّل مكثّف، واستثنائيّ للحياة. إنه تشكّل واع. ودورها مضاعف. فهي تظهر كيف عشنا إلى حدّ الآن، وكيف سنعيش مستقبلا. وهي نقد لكلّ ما حدث لنا إلى حدّ هذا الوقت. في الآن نفسه، هي تمثّل أيضا إمكانيّة للخلاص.وأمام الورقة البيضاء، ليس هناك غير أملنا الذي يكون أكبر من خوفنا". وعن اللّغة ،كتب بيلينسكي في يوميّاته يقول:”حتى وإن كانت علما، فإنّ اللّغة ليست كذلك.ف ي مجال أوّل هي تواصل وارتباط. وهي وسيلة لا تنض لنقل أخباري إلى آخرين،وإبلاغي بأخبارهم. اللغة استقبال وهبة. وهي إنفتاح وحب. وهناك حيث يُزيّف الحبّ ، وحيث ينتهي، فإنّ المعنى الحقيقي والجوهري للكلمة يموت بصورة واضحة، ويُمسَخ الفنّ. وهناك حيث تكون وسيلة للرفض، والإنكار، وتقويض الوحدة، والإستيلاب، فإن الكلمة تموت عاجلا أم آجلا. وحتى وإن استمرّت في الحياة، فإن هذه الحياة لن تكون غير تفاقم لورم سرطانيّ"...إ
إنطلاقا من نهاية ألأربعينات، شرعت السلطات الشيوعيّة في المجر في نلاحقة المثقفين المنشقين. وكان الناجون من التصفيات والإعتقالات يتهماسون باسمه في السّرّ"...ولم تغيّر ثورة 1956 التي اندلعت ضدّ النّظام الشيوعي شيئا من أوضاع المجر، بل زادتها تعفّنا وسوءا، إذ تمّ القضاء على المعارضين ، وسحقهم بلا رحمة ولا شفقة. وكانت القصائد التي كتبها يانوس بيلينسكي في تلك الفترة السّوداء حيث كانت دبّابات الجيش الأحمر السّوفياتي تجوب شوارع بوداباست عاكسة لما كان يشعر به هو من يأس، ووحدة ،وتمزّق. عن تلك القصائد كتب الشّاعر الفرنسي من أصل مجري، لوران غاسبار يقول:”كانت القصائد التي كتبها بيلينسكي قبل ثورة 1956 وبعدها ، تطمح إلى أن تكون الجوهر والمادّة الحيّة للضّياع، والتمزّق، والتّفتّت. لقد كانت مثل هذه الأجساد، ومثل هذه ألأفكار التي لم تكن تكفّ عن إجتياز الصّحراء، والتي تمتصّ الألم ، والوجع، لكنها تستنير أيضا بفهم لضرورة الحبّ في ما وراء أحكام ما يمكن أن ينفعنا أو يضرّنا". ويواصل لوران غاسبار كلامه قائلا:”إنّ شعر بيلينسكي هو صورة حيّة لوحدته ،وعذابه، وأيضا لرغبته العارمة في الحبّ. هذه الرغبة التي كانت وحدها تساعده على مواجهة المحن.والكتابة كانت بالنسبة له الوسيلة الأكثر نجاعة لتحقيق الحوار، ،والتّبادل، والتّواصل,
خلال زيارة إلى باريس عام 1963، اكتشف بيلينسكي الفيلسوفة الفرنسيّة سيمون فايل(1909-1943(التي نَذَرت حياتها للدّفاع عن المحرومين ، والمعذّبين في الأرض. ومنذ ذلك الحين أصبح لأفكار هذه الفيلسوفة التي نحتت أفكارها إنطلاقا من تجربتها المريرة، تأثير هائل على بيلينسكي، وعلى رؤيته للشعر، وللوجود،ولذاته أيضا. وهكذا لم يعد يهتمّ بالتّفكير في العالم، وإنّما أصبح يرغب في أن يرى الولادة المتواصلة، والمستمرّة لهذا العالم. وعوض أن يسمّي ألأشياء بأسمائها، بات يرغب في أن يتكلّم، ويتحاور معها، والإستماع إليها في فعل الكتابة. وهنا يصبح الشاعر مثل العدّاء. ف"العدّاء عندما يجري ليس سعيدا ولا شقيّا. وهو من دون أب، ومن دون أمّ،و من دون طفل. إنه وحيد، وليس له غير السّاق. وهو ليس مُجبرا حتّى أن يفكّر". وقد أمضى يانوس بيلينسكي السنوات الأخيرة من حياته في تسجيل أفكاره وخواطره عن الشّعر، وعن الحياة، وعن الشعراء والكتّاب الذين التقى بهم، وعن قراءاته، وعن هموم الحياة اليوميّة. وكان ينشر البعض من أفكاره هذه في الصحف، وفي المجلاّت ألأدبيّة في بلاده.في نصّ حمل عنوان "أشجار الطفولة، نشره في صيف عام 1974،كتب يقول:”صورة شوهدت ألف مرّة.أمسية عائليّة على العشب. غير بعيد من هناك، أمام غيضة ظليلة، عربة طفل. ظاهريّا لا يحدث شيئ في هذا المشهد الطّبيعيّ السّاحر. مع ذلك، هناك أشياء كثيرة تحدث! أشياء لا يمكننا إلاّ أن نقارنها بولادة العالم. تحت سقف العربة، رضيع أبكم يتأمّل شجرة بكماء.وهذه الشجرة مثل مُرضعة هائلة الحجم. وهي بمثابة المعْلَم الأوّل. وكلّ ورقة من ورقاتها تشبه
الأخرى. في طفولتنا، هذه الشجرة تعلّمنا لغة الكون...وحده إنتباه رضيع هو الأقوى لفهم هذه اللّغة. وعندما نتقدّم في السّنّ، يضعف هذا الإنتباه، وننسى نحن لغة الأشجار". وعن الفنّان ،كتب بيلينسكي يقول:"الفنّان هو كلّ واحد، وهو بطريقة مّا الإنسانيّة جمعاء. وكلّ عمل فنيّ جديد حقّا هو الجملة الوحيدة، السعيدة تراجيديّا المفصّلة من آلاف الكلمات والتّعبير عن الكونيّة، وعن التّكامل المتجدّد دائما للعالم".ويضيف بيلينسكي قائلا:” ليس الفنّان قدّيسا ،ولا مجرما .وهو ليس عبقريّا ،ولا غبيّا. إنه هؤلاء جميعا. إنه الإنسانيّة المرتجّة، والمنقسمة، والواحدة أبدا".
في السّنوات الأخيرة من حياته،م حاولا تقييم تجربته الشعريّة ، كتب يانوس بيلينسكي يقول:”في الوقت الرّاهن، أنا أكاد أكون رَئيث الثياب. باآستطاعتي أن أقول أيضا بإنّي كنت أكتب قصائدي القديمة باليد اليمنى .أمّا آلآن فأكتبها باليد اليسرى، وبطريقة تكاد تكون خرقاء. في الزّمن الماضي، كنت أرغب في أن أرى كلّ شيئ. وفي الوقت الرّاهن لا أنظر سوى لنقطة واحدة. مع ذلك أشعر أني لا أقصي كثيرا من الأشياء مثلما كان الحال من قبل" .ويواصل بيلينسكي تقييم تحربته قائلا:”مقارنة بفترة الشباب، أصبحت الكتابة وظيفة حيّة، وأكثر طبيعيّة من ذي قبل. الأكل، والقيام بالصّلاة، والتحاور مع الآخرين،والتسوّق، والكتابة ، كلّ هذابات قريبا من بعضه البعض، وملتصقا ببعضه البعض(...)لم يعد بمقدوري الفصل بين الحياة والأدب". في واحدة من قصائده في المرحلة الأخيرة من حياته،وهي بعنوان"”حجاب"،كتب بلينسكي يقول:
ليست هناك شمس
ليس هناك قمر
ولا طفولة
وخصوصا ليست هناك أرض، الأرض -الأم
ليس هناك تابوت ولا وطن
ولا مَهْد ولا فراش مُعَدّ
ولا موت مُسوّى تحت رؤوسنا
الذي يحيا، يحيا على رأس إبرة
وسلامنا نفسه ليس غير
جناح مُلْتو خائر القوى
حجاب إمرأة متزوّجة، منزوع أو ليس تماما
مُغْمَى عليه فوق مسْمار
تدلّى برخاوة
لنتدلّ جميعا برخاوة
من دون مقبرة...