صدر للشاعر والناقد العراقي ريسان الخزعلي كتابه الذي يحمل عنوان : (بستان الرازقي ، مظفر النواب.. الاسرار القصية في الشعر الشعبي العراقي) عن دار قناديل في شارع المتنبي ببغداد، وهو استقصاء مهم لتجربة كبيرة ومهمة لشاعر عراقي مميز طالما كان العنوان الابرز في الكثير من قضايا الشعر والغناء ،بل ان المؤلف ينتصر للنواب حين وضعه بمستوى شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، من حيث إيصال القصيدة ،وهذا الكتاب هو الكتاب الحادي والعشرون للخزعلي شاعرا وناقدا
يقع الكتااب بـ (250) صفحة من القطع المتوسط ـوتضمن على مقدمتين كتبهما المؤلف وسبعة عشر باباً بحثياً استقصائياً، لكنه قبل هذا يواجه القاريء بترنيمة جميلة ربما اراد من القاريء ان تكون مثل موسيقى تصويرية له وهو يقرأ صفحات الكتاب، كأنه يكتبها بماء الورد على باب البستان قبل الدخول اليه :
(وصفولي عنك
شال منك غيظ
بستان الورد
والنرجس الرايج
سكر) !!
ففي مقدمته الاولى (تقديم 1) يقول ريسان الخزعلي : لقد كان تحركي هذا في القراءة محكوما بأهدافه منذ البدء، حيث لم أضع هدفاً فوق هدف الكشف عن العناصر الفنية / الجمالية في القصيدة الشعبية الحديثة، وقد كان للشاعر الكبير مظفر النواب المساحة الأكبر في قراءتي، كونه الشاعر المجدد الأول، تاريخياً وفنياً، واني لا أفترض لدراستي هذه أن تكون متكاملة، حتى وان حاولت جاهداً في هذا الإتجاه..، فالطموح شيء والمنجز المحقق شيء آخر .
&
أما في المقدمة الثانية (تقديم 2) فيقول : لقد كان النواب في مواجهته الشعرية التجديدية، مثقفاً موهوباً، ذا تجربة كبيرة، وبذلك توافر على مقوّمات الإبداع، واستطاع ان يؤسس لحداثة الشعر الشعبي العراقي، وان يصل الى جمهور عريض بشهرة إبداعية ستستمر طويلاً..، ولمظفر جمهور واسع قد يضاهي البياتي والجواهري، الا ان الأهم من ذلك أنه استطاع ان يكون رأس مدرسة في الشعر الشعبي.
ويوضح : حاولت في هذه القراءة دراسة النواب على مستوى التجديد والتحديث وجماليات استخدام الصورة الشعرية والرمز وكذلك اللغة ، وهي دراسة مستلة من مخطوطتي "الشعر الشعبي العراقي الحديث - حدود التجربة واللون - وقد صدر منها ما يتعلق بتجارب الشعراء ؛ "ابو سرحان ، عزيز السماوي ، علي الشباني ، طارق ياسين وشاكر السماوي .
ويشير المؤلف: اذا ما كانت هناك ثورة الشعر العربي الحديث لمطلقيها السياب ونازك والبياتي وبلند الحيدري فان ثورة مماثلة حدثت في الشعر الشعبي العراقي الحديث بقيادة النواب ، فهو "زعيم" التجديد ، يعود ذلك لاسباب عديدة منها ؛ موهبته وتجربته السياسية النضالية وثقافته (التحصيل الدراسي ، معرفته الموسيقية وميله الى الفن التشكيلي)
الكتاب ليس مجرد رحلة او سياحة عادية في حياة الشاعر او شعره بل هي حفر في اعماق الشعر الشعبي العراقي الذي يقف على رأسه الشاعر النواب الذي طالما كان يثير الاسئلة في شعره ومواقفه وهو الذي يمتلك وعيا وفكرا متوقدا فكان قدوة للكثير من الشعراء والمثقفين من بعده وصنوا لكبار الادباء المشاهير لانه استطاع ان يؤسس لنفسه وللشعر الشعبي العراقي مدرسة جديدة، المدرسة الحداثوية،التي ظلت لا تجارى فيما هو لا يزال بقامته المديدة شامخا في فضاءاتها .
فيبدأ المؤلف بالذهاب الى القصيدة الاكثر انتشارا وشيوعا عند العراقيين ، وهي قصيدة (الريل وحمد) التي تحولت الى اغنية غناها المطرب ياس خضر ، حيث يقول عنها : ان هذه القصيدة تقوم على التماهي مع تجربة حب حقيقية، كان الشاعر طرفاً في الإستماع الى بعض تفاصيلها في رحلة القطار النازل الى البصرة، حيث جمعته المصادفة مع إمرأة، تجلس على مقربة منه في العربة نفسها من القطار ، واستطاع بفراسة النابه ان يتلمس حزنها ، ويفك اساريره ويستمع الى قصة الهجر التي تعرضت لها ، تلك المرأة مع حبيبها الساكن في قرية ابو شامات ، الواقعة على مقربة من سكة القطار ، تفاعل الشاعر مع القصة بحساسية انسانية وشعرية عالية وتمثل التجربة ، رغم ان المرأة هي المتحدثة في القصيدة ، الى القطار في معظم المقاطع .
( مرينه بيكم حمد / واحنه بقطار الليل / واسمعنه دك كهوه / شمينه ريحة هيل / ياريل صيح بقهر / صيحة عشك ياريل / هودر هواهم ولك / حدر السنابل كطه ).
ويضيف : ان القصيدة عبارة عن تجربة واقعية، على مقربة من من موهبة وثقافة وإحساس إنساني مرهف، وإنصات دقيق، حيث انها تتقدم بثياب جديدة وعطر جديد ومصافحات جديدة.
وفي مكان اخر يقف المؤلف عند باب (تجديد وتحديث النواب في الشعر العراقي) فيقول : ان النواب في تجديده الذي أفضى الى التحديث، وبالتالي تجربة الحداثة في الشعر الشعبي العراقي، جعله يصطف مع رواد التجديد في الشعر العراقي والعربي، تأسيساً وأهمية وتأثيراً .
اما عند باب (جمالية الرمز في شعر مظفر النواب) فيقول : مظفر النواب في شعره الشعبي، لا يستخدم الرمز بدلالته المعروفة مباشرة، وانما يستخدم الرمز حينما يكون قد أحسه وأدركه من مواجهات الواقع، والواقع المعاش..،أي من الإصطدام المباشر مع حركة الحياة اليومية، ولهذا تعليله، فالتجربة التي يعيشها النواب، تجربة تبني كل مقوماتها الفنية من إنعكاسات حسية حادة
تضرب بعيداً على وتر متوتر في النفس، مما يجعل هذه الرموز وكأنها ملاذ وخلاص من الأزمة كما يتصور النواب ذلك .
ويوضح الخزعلي قائلا : استثمر النواب فتحه الذهبي هذا ، مدفوعا بزخم الموهبة والثقافة والتجربة ، وعمق الانصات لوقع قصيدته للريل وحمد ، وواصل مشروعه باقتدار فني تجديدي ، وكتب عشرات القصائد ، ما بين الفترة 1958 – 1969 . نضجت مجموعته الرائدة التي صدرت عام 1969 ، وقد ضمت القصائد الكثيرة وهي مختارات من مجموعة كتبت خلال تلك الفترة .( مضايف هيل / ياريحان / ولا ازود / جنح غنيده / عودتني ).
ومن ثم يقف عند باب (جماليات الصورة الشعرية عند مظفر النواب) فيقول : ان الصورة في شعرية النواب إرتكاز جمالي أساسي طاغ، يمليه الطوفان الرومانسي الحالم على إحساس الشاعر، ولأنه ليس من أصحاب التجارب الباطنية او الذهنية، لذلك لا يأخذ التجربة من أي تماس او انجذابا، وصورته الشعرية تبعاً لذلك، تتشكل محسوسة وناطقة في ثنائية جديدة / نادرة على جماليات الصورة الشعرية في أدبيات المذهب التصويري.
وفي باب (جماليات اللغة الشعرية عند الشاعر مظفر النواب) يقول المؤلف : في هذا الجانب الجمالي من العمل الشعري ، تتقدم القصيدة الشعبية الحديثة ومنذ بواكيرها ، لتؤسس منطلقاتها الفنية المتأتية من الصورة الشعرية ، بشكل يفوق او يتفوق على بقية الجوانب الاخرى ، والتعليل هنا يكمن في ان الصورة ، لم تكن مرتبطة اساسا بالشكل الحديث للشعر العربي ،وانما تتوافر حتى في الشكل القديم .
ويضيف : ان النواب يستخدم في جماليات تحولاته البنائية / اللغوية، تكرار اللازمة الشعرية، واللازمة كانت في القصيدة الشعبية وشكلها الأول، تقليدية إرتكازية تكميلية، لا تضيف أي ملمح فني على القصيدة .
ثم يعود الخزعلي ليؤكد : ان النواب في قصائد مجموعته الرائدة (الريل وحمد) استخدم اللازمة ، سواء كانت في الإستهلال او في نهاية المقاطع، الا انه احدث تنويعاً غير مسبوق، وذلك بتغيير التشكيل اللغوي والصوري لهذه اللازمة .
ويأخذنا الخزعلي ومن خلال باب آخر الى التطرق الى رحلة النواب من (للريل وحمد) الى (طشة ملبس)، وهي رحلة تمتد لسنوات طويلة ، فيقول : بين القصيدة التجديدية (للريل وحمد) وهذه القصيدة مسافة زمنية تمتد لأكثر من أربعة عقود، ومثل هذا التراكم الزمني – وبعد خبرة الشاعر المتراكمة هي الأخرى – يجعلنا نتلقى القصيدة بأكثر من استعداد فني وتحت تأثير قصيدة (للريل وحمد)".
ويقف عند باب (شعرالنواب في اللحنية العراقية) يقول : لم يكتب النواب شعراً من أجل الأغنية، الا ان الذي حصل هو قيام بعض الملحنين بتلحين بعض القصائد من مجموعته الأساسية (للريل وحمد) من غير علمه وموافقته الا في حالات محدودة، كما لحنت قصائد أخرى من خارج هذه المجموعة .
وعند باب ابداع النواب في اللغة الشعرية يرى الخزعلي : كان الشاعر مظفر النواب متجاورا ومتماسا ، مع الجماليات في شعره ، بل ان تجديده وتحديثه في الشعر الشعبي العراقي ، قد قام على كشف الاعماق القصية في اللهجة اضافة الى عناصر اخرى ،وتطويعها شعريا بتفوق غير مسبوق،ومن بين هذه الجماليات ، جمالية تكرار المفردة او الشطرة الشعرية ، او اللازمة بتنويعات غير متشابهة ، وكل هذا يحصل من اجل تحقيق اشباع شعري ، صوتي ، غنائي ، وبدراية المبدع العارف
ويضرب مثلا: (والكيض اجانه وانكضه / ورد انكضه / ورد كيض اجه / والزلف هجرك فضضه / ورد فضضه / وما مش رجه / شجاب العشك وشوده / لا بالمحطه رف ضوه / لا خط اجانه من البعد / لا ريل مر ع السده ).
وعند باب (القصيدة بصوت أنثى) يقول الخزعلي : في الشعر الشعبي العراقي الحديث، يكون النواب أول من كتب الشعر على لسان أنثى، وله في ذلك عدة قصائد تجديدية وتحديثية، وقد أوجد ملمحاً فنياً / صوتياً واضحاً في بعض قصائد المجموعة (للريل وحمد) والقصائد الأخرى الموازية لها تأريخياً .
ويؤكد : الكتابة بصوت الانثى تعود في جذورها الى الهايكوات السومرية العراقية ونعي النساء ، وكان النواب يستمع ، بإنصات عميق ، الى نعي النساء الحسيني . فكان اول من كتب ، في الشعر الشعبي الحديث ، بصوت الانثى :
(ودن عالمكاحل
يا مضايف هيل
غطنه ، بكحل دخله
ومحبة ليل)
ومن باب آخر يذهب المؤلف الى ما تطرق له الناقد الدكتور (حسين سرمك سلمان) في كتابه المعنون (الثورة النوابية – دراسة اسلوبية في الشعر العامي للمبدع مظفر النواب) حيث يقف عند عنوان (الثورة النوابية .. أكثر من إشادة .. أكثر من إشارة، فيشير الخزعلي اليها قائلا : ان كتاب (الثورة النوابية – دراسة اسلوبية في الشعر العامي للمبدع مظفر النواب) تتقدم فيه الإشادة قبل الإشارة، وقد وجدت من المفيد أن أضمنها في كتابي هذا، لأن ثمة تخاطرات نويت أن أذكرها، الا ان السبق كان للناقد .
&
وقبل ان تنتهي السياحة الجمالية في رحاب (بستان الرازقي) يقدم المؤلف للقاريء باقات من ورد قصائد تحديثية للشاعر النواب يظل يستنشق عطرها طويلا .