&بقلم&د طارق القطيبي

&
تبدو كأنها أنغام متراقصة تسر الناظر وتبهج السامع وهي تشنف أسماع كل من تاقت نفسه لها،تلك هي مدينة قرطبة الغراء التي تزاحم في وصفها وتوصيفها الشعراء والكتاب والوزراء وحتى الفقهاء والقضاة منهم.لذلك لا مراء أن ينزلها أهل الأندلس بمنزلة سامقة ويجعلونها سلوة أنفاسهم وباكورة أعمالهم،لنضارتها وعلو كعبها وشموخها الثقافي والحضاري والعمراني خاصة على عهد حكم بني أمية الذين تسامت معهم زينة مدائن الأندلس، لتبلغ شأوا بعيدا من الفرادة والنبوغ حين أنصفها التاريخ الإنساني وجعلها أول عاصمة للخلافة الإسلامية بالأندلس ،باعتبارها المدينة الأندلسية الفارهة التي تفتقت فيها عبقرية العلامة ابن حزم والمؤرخ ابن حيان والشاعر ابن زيدون وتوقدت فيها جذوة الفيلسوف ابن رشد& والطبيب الجراح الزهراوي والمفكرابن ميمون وغيرهم من العلماء الأعلام الذين جادت بهم قرطبة في أبهى عصورها العربية الإسلامية. ولعل هذا ما جعل الباحث والأكاديمي الإسباني دانييل فالدفيسو راموس يتبتل في تضرع وخشوع& عبر كتابه الجديد " قرطبة ابن حزم" ليلامس بعضا من مظاهر الثراء الثقافي والحضاري والإجتماعي الذي ميز منارة الغرب الإسلامي على حد وصفه،خاصة في مرحلة تاريخية اتسمت بحساسية كبيرة كانت فيها شمس دولة بني مروان تميل إلى الغروب،ومع ذلك آثر المؤلف أن يستحضر تلك التمثلات التي لا تزال تصدح بعبق الذاكرة والتاريخ التي ميزت مدينة قرطبة ،والتي جعلتها إلى اليوم مضربا رائعا للأمثال ومرتعا خصبا لكل من يريد أن يتشدق لما وصلت إليه هذه المدينة من مجد وفخر وعز وسؤدد، في ظل سماحة الإسلام وشموخ الثقافة العربية التي وصلت حدا لا يوصف من الإمتاع والمؤانسة في كل المجالات الأدبية والفقهية والعلمية.بيد أن المتأمل مليا في سياق ما دبجه دانييل فالديفيسو راموس في هذا الكتاب الذي رأى النور ضمن منشورات يجعلنا نخلع عليه تعمده اعتبار العلامة ابن حزم كعالم متفرد في القرن الهجري الخامس شاهدا على أهم التحولات الكبرى التي عرفتها قرطبة ،و كأنك يريد كتابة تاريخ منسي بعيون مؤلف طوق الحمامة وجمهرة أنساب العرب، والذي كان بحق من الشخصيات العالمة التي بلغت من السموق الفكري حدا لا يوصف في مدينة قرطبة لاسيما وأنه تربى في كنف البلاط الأموي ردحا من الزمن وتنسم عوائد ثقافية واجتماعية وسلوكية، مما جعله يغرف من معين بحر زاخر من العطاء الثقافي والفكري عبر ما قدمه من منجز علمي حصيف جمع بين الثراء والتنوع في مختلف المجالات الفكرية.إن فكرة توصيف كتاب تاريخي وحضاري حول مدينة قرطبة يعتبر في الوقت ذاته اعترافا حقيقيا وضمنيا بالمكانة السامقة التي تبوأتها مدينة قرطبة بإعتبارها أول عاصمة للخلافة الإسلامية بالغرب الإسلامي،وذلك& منذ أن ثبت بنو أمية دولتهم الناشئة على أرض الأندلس بعدما انتثر أسلاك عقدها في دمشق وطما رسمها هناك& بعد أحداث وقفت عندها أضابير التاريخ،ولأن قرطبة تحمل في الذاكرة والتاريخ& ذلك الفيض الوجداني الذي جعل الناس يهيمون بها حبا حين جعلونها درة أشعارهم وسلوة أنفاسهم،فإن الباحث الإسباني& دانييل فالديفيسو راموس كان على درجة عالية من الدقة في اختيار موضوع الكتاب الذي جاء ليميط اللثام على مدينة تنسمت عبق تاريخ مشترك جمع منتسبي الديانات الثلاث على نسق واحد من العيش المشترك وقيم التفاعل والإنصهار الذي وصل حد التداخل بين أعراق وملل مختلفة ،حيث شكل التسامح والتعايش مرجعيتها الكبرى إسوة بباقي مدائن الأندلس على نحو ما نجد ما جمع العرب و الأمازيغ و الصقالبة& & &والأسالمة و اليهود والمولدين والمستعربين من وحدة الإنتماء للأندلس و الذي شكلت قرطبة نواتها الأولية.بيد أن الباحث الإسباني و في معرض استنطاقه لفصول الكتاب التي ناهزت 234 صفحة حاول أن يربط& قرطبة بسياق أحداث و تحولات على عهد ابن حزم، و كأنه كان يؤشر بطريقة غير معلنة إلى مظاهر الثراء والتنوع التي وسمت المدينة في تلك الحقبة، والتي كان العلامة ابن حزم شاهدا عليها من خلال كتاباته& & ومشاهداته وأشعاره و مطارحاته ومناظراته و حتى سجالاته الفقهية التي كانت تمتح من المذهب الظاهري الذي أعلى شأنه في زمن عرف تجاذبات فكرية متعددة، و يبدو أن اختيار الباحث دانييل فالدفيسيو راموس لشخصية ابن حزم دون غيره من أعلام جيله وفي فترات تاريخية متقطعة، من شأنه أن يشحذ عزيمتنا حول الدوافع والحيثيات التي جعلته يعض على شخصية ابن حزم بالنواجد،فهو من جهة ينتمي لعلية القوم الذين عاشوا بين نعيم القصر وجحيم الفتنة، التي أودت بقرطبة مطلع القرن الرابع مما جعله شاهدا حقيقيا على مدارج التحول الذي ابتليت به المدينة بين زمنين مختلفين، مما انعكس ذلك على منجزه الفكري وشحذ قريحته بأعمال فكرية رائدة كانت سباقة في زمانها، ولعل ما أوعز هذا الإختيار من لدن المؤلف لشخصية ابن حزم الذي عاش بين نعيم الاستقرار وجحيم الفتنة& والتي أملت عليه محددات كبرى استقاها من بنات أفكاره و كأنه يريد أن يقدم لنا و بشكل مستفيض نموذجا يحتدى من التاريخ الإسباني الإسلامي،في عالم اليوم الذي تكالبت عليه الإحن والمحن وغداه الإرهاب الفكري بكل عدائيته المفرطة بسبب الإختلاف مع الأخر، وهذا ما جعله يجد في شخصية ابن حزم ذلك الفقيه الألمعي والمفكر المتوقد والشاعر الملهم والمناظر المتفتح و تلك صفة جليلة طبعت شخصيات أندلسية بكل مظاهر التسامح و التعايش والحوار الذي بلغ من التداخل حدا لا يوصف بين كل المنتسبين للثقافات الثلاث في الأندلس.& &
إعلامي و أكاديمي&
الرباط - المغرب