.. اتسعت عينا ديفيد فجأة كأنه تلقى رصاصة في الظهر، يا للهول ويا لثقل المفاجأة! طبعا.. لم يكن للأمر علاقة برهان كوفيد، فالرهان لم يكن أبدا مغريا ولا ينطوي على أية مفاجأة تذكر، ونتيجة ديفيد فيه كانت اثنين من عشرة.. مع كثير جدا من التجاوز، والتجوز...

لقد وصلت أخيرا آخر برقية من تلغراف ذاكرة ديفيد، حملت شيفرتها هوية صاحب "الجثة الحية" التي شرع في مخاطبتها منذ أربع ساعات وأكثر، أي منذ الظهيرة، وها هي ذي شمس الأصيل تميط اللثام في سيرها عن تلك الهوية. ليصرخ ديفيد فجأة في غمرة حواره الداخلي، بعد أن كان يتسلى برصف الأسماء مستغلا هذا الرهان لتلتقط أفكاره بعضا من أنفاسها:

.. اللعنة! نعم.. إنه هو.. البروفيسور إ.أ، عالم الأوبئة.

سبق لديفيد أن التقى بهذا البروفيسور الشهير مرات كان آخرها أواخر السنة الفارطة، أي في بدايات الوباء، وكان الأمر حينها خبرا "عاديا"، شكل مناسبة للحديث عن الفيروسات وتاريخ تطورها وارتباط الموضوع بالحرب البيولوجية وغير ذلك مما يذكر عادة في مثل هذا السياق.. غير أن ديفيد يذكر جيدا البروفيسور وطريقة حديثه، تلك التي تثير السخرية أكثر مما تثير الاهتمام نظرا لطبيعة الموضوع، لذا فقد تطلب منه الأمر ساعات حتى يتذكر ويربط هذا بذاك ويفك الشيفرة.

وهو كذلك، استغل ديفيد صمت كوفيد وألقى نظرة متفرسة هذه المرة على وجهه مستغلا انكسار شمس العشية، فبدا وجهه مختلفا بعض الشيء، فبالإضافة إلى احمرار العينين المرضي الذي لاحظه منذ دخل الغرفة، فقد كانت ملامح البروفيسور الجديدة مغلفة بالصرامة، وافقتها طريقة حديثه المتزنة والمنظمة، والمخالفة تماما لطريقة صاحب الجثة!

ضاقت عينا ديفيد هذه المرة وهو يحاول أن يتذكر أسمع خبرا ما هنا أو هناك عن البروفيسور إ.أ قبل أن يأتي هنا لإجراء المقابلة.. لا، لا يذكر أنه سمع عنه شيئا. كما أنه شهير بما يكفي ليذيع خبر وفاته لو أن الفيروس فعلا قتله.. أفيكون كوفيد قد نال منه لحظات فقط قبل اللقاء؟! ما هذا الويل الطافح بالالتباس!

بدأ ضجيج المفاجأة يسكن شيئا فشيئا إلى أن صمت بدوره في رأس ديفيد، فالآن انضافت إليه مهمة أخرى، في قلب هذه المقابلة، ألا وهي محاولة تذكر ما قاله له إ.أ ذاك اليوم.. هنا وجد ديفيد الوقت ملائما جدا ليسخر من نفسه! فقد وجد طريقة حديث البروفيسور يومها- وكذلك

كان دأبه دوما- مضحكة وتعليقاته تشبه كثيرا تعليقات عامة الناس على المواضيع العلمية الحساسة والدقيقة كالطاقة النووية والفيزياء الفلكية.. إن لم تكن أسوأ! إلى الحد الذي كان يدفع ديفيد لأن يشك في أن هذا عالم أوبئة.. لولا المناصب التي يشغلها والمكانة التي يتبوؤها وسط المجتمع العلمي. لذا، فقد شرعت ذاكرة ديفيد في مسار جديد لاقتفاء أثر ذلك الحديث الذي جمعه بالبروفيسور، والذي قد يحمل إشارات ما، لا سيما أن لا تفسير للشبه المطابق بينه وبين هذه الجثة الجالسة أمامه سوى أن روح الوحش تلك التي تسكنها قد نالت من صاحبه الأصلي قبل أن تسكن...

كانت يد ديفيد تخط رؤوس أقلام انصرف عنها لحظة وهو يتأمل الوشوم التي عليها، ليخيل له للمرة الثانية فقط أنها نمل يسعى! فذكر آخر مرة راودته خيالات كهذه، وكيف أنها كانت نذير وبيل.. مهد له شيء من أمل، ورجاء قليل...

ثم يعود ديفيد مرة أخرى إلى كلام كوفيد مواصلا حواره الداخلي قائلا:

.. حسنا، إذا استثنينا الأرواح التي حصدها، ويواصل حصدها، هذا الوحش النازي الإرهابي بطريقة يدوية.. كأنه حرفي أوان خزفية! والآلام التي تسبب بها للمرضى الذين أصابهم ولذويهم، فإننا لن نجد شيئا آخر ذا طابع إجرامي في سجل هذا القاتل ولا في منطقه. هذا الذي يناسبه تماما في مجلس السياسيين والمفكرين مقعد على يمين بنيامين، تماما كما يناسبه آخر على يسار ماركس.. منطقه هذا الذي يبدو أكثر حكمة بكثير من كثير ممن ترجى منهم الحكمة فتنعدم!

صحيح أن الحياة هذه مفرغة من كثير من المعاني التي كان يفترض أن تحملها.. حياة.. تلك التي خسرت فيها كل شيء حتى أتمكن أخيرا من أن أسلم من الخسارة! محرقة الأحلام ومقبرة الآمال، جسد ممزق بين موطنين.. هنا أنا مهاجر، وهناك أنا أجنبي، تتنازعني ثلاث ديانات بكل ثقلها.. رغم أن الهدف واحد، كما قال هذا السفاح، فلم النزاع من الأصل؟!

.. حتى ابنتي، آخر نافذة لي في هذا الكون على الفرح، كنت أرى في عينيها السعادة رأي العين، وفي عطر بسمتها وبين ضفائرها وحضنها أتنفس الحياة، ها قد حرمت منها.. والمحاكم لم تقضي في ملفي بأدنى حد من العدالة.. فأين الحياة؟!

كل الناس خارج الباب يخافون من الموت.. ما يخيفني أنا هو ذلك الخوف الذي رأيته في عيني فتى في أخر جولة لي في أوربا قبل أن أدخل الغرفة. كنت أساعد أحد الرفاق في إنتاج أحد الأفلام الوثائقية حول مسار الأطفال في آخر سنة لهم قبل أن يلتحقوا بالمرحلة الإعدادية، ليصادف وجودنا خبرا أليما كان فاجعة انتحار إحدى التلميذات في المدرسة، ما شوش كثيرا على الطلاب فقررت مدرستهم، التي كانت تغمرهم بحب أولا قبل أن توجههم إلى الأفضل بحزم، أن توقف الدرس وأن تكون حصة ذلك اليوم حديثا مفتوحا معهم ليعبروا عن ما يثقل على نفوسهم. فكان أن بدأ التلاميذ، الواحد تلو الآخر، في البوح بما في صدورهم حول الموضوع وأسبابه، ومن بينهما ما ذكره الأطفال، والصدمة لم تغادر بعد تماما ملامح وجوههم البريئة، أنه كان ردة فعل مباشرة على سخرية زميلات الفقيدة منها ونعتها مرارا وجهارا

بـ"البشعة".. وحين أتى الدور على إحدى الفتيات قالت ذلك أيضا، مضيفة بدهشة مثقلة بالأسى مصرة على النفي: لا.. لم تكن أبدا بشعة! كأنها كانت تحاول سدى أن تقنع السبب ذاته أنه غير مقنع.. وبالتالي فالفتاة لم تكن تستحق أن يدفع بها إلى الموت، وأنها يجب أن تعود إلى الحياة...

وإلى هنا كانت أمور كهذه تقع أحيانا بين أطفال ينتقلون لتوهم إلى المراهقة، لكن ما لفت انتباهي أولا ثم صدمني فيما بعد هو ذلك الفتى الذي بدت صدمته أكثر هدوء وعمقا في آن. فبعد أن كرر بصيغة أخرى ما قاله زملاؤه، إذا به الوحيد الذي أضاف الجملة التالية التي كان وقعها أشد وطأة من الحادثة نفسها:

".. إنه إحساس قاس جدا، وأنا خائف جدا ودوما من أجد نفسي أنا أيضا أرغب في الانتحار".

لقد قالها دون خوف.. ومن محاسن الصدف أنه كان آخر من يدلي بشهادته قبل الفسحة، ما جعل الطلاب يخرجون فور ذلك إلى الساحة للعب وللترويح عن نفوس صغيرة تكتشف للتو أن الحياة أمر يتجاوز بكثير أسوار المدرسة...

مرت الأيام، ونجح الطلاب في العودة إلى إيقاعهم المعهود، لكن عيني كانت مسلطة على ذلك الفتى. لقد كان متفوقا جدا، لا سيما في مادة التعبير الكتابي، حيث كان مستواه أعلى بكثير جدا من مستوى أقرانه، وكانت المدرسة نفسها تنبهر به وتطلب منه بعد كل اختبار أن يقرأ منجزه بصوت عال، فكانت علامات التعجب تتراقص على أعين الطلاب الذين لا يفهمون من أين لصاحبهم هذا! والمدرسة تثني عليه في كل مرة قائلة إنه أفضل طالب درسته في مسيرتها كلها، هي التي تفصلها سنتان فقط عن التقاعد من التدريس، وحين كانت تنظم مسابقات للكتابة سواء داخل المدرسة أو بين المدارس، فالنتيجة كانت معروفة سلفا.. وما كذلك كانت أسباب شبح الخوف الذي يسكن هذا الفتى، والذي الرب وحده يعلم قصته التي لا يقولها، ولا يكتبها.

ووسط كل هذا كان صاحبنا هادئا جدا، لقد أثار القلق الشديد في نفسي أنه لا يقوى على الابتسام ولا على الضحك كزملائه. صحيح أن تعابير وجهه كانت تشي بين الفينة والأخرى بشيء من الفرح العارض أو الرضا اللحظي، لكن سرعان ما يعود الخوف لاحتلالها واستيطانها، ووحده هو فيها يسود.. ويحكم...

غادرت تلك البلاد وملامح الفتى لم تغادرني، وما غادرتني صورة الخوف وهو يعربد في عينيه. فكان آخرَ شخص سألت عنه رفيقي ذاك قبل أن أدخل الغرفة، وسيكون أولَ شخص أسأل عنه إن أنا خرجت.

ومنه، فإن خوفي امتداد لخوفه، لا خوف آخر غير أن يسلب هذا السفاح ذلك الفتى حياته قبل أن يحس ولو لمرة وحيدة أخيرة معنى الأمان.. وغريب جدا أن آخر ما سمعته، قبل القدوم إلى هنا، مسلسل إذاعي يحكي قصة شابة يافعة نجحت، بتواطؤ مع شقيقتها، في الاختفاء داخل منزل الأسرة الفسيح المترامي الأطراف لسنوات، ظن خلالها الأهالي أن والدها هو من يسجنها ويعذبها بعد خلاف حاد بينهما حول الاختيارات الحياتية، فتوالت البلاغات إلى أن غمرت مكتب مفتش الشرطة الجديد، ليكشف سر اختفاء الفتاة تسع سنوات كاملة، وسط ذهول الأب والمفتش الذي لم يصدق الأمر. لينهي الأب حياته مباشرة بعد انصراف الشرطة، وليأخذ ذهول

المفتش أبعادا أخرى حين عاد ورأى جثة الأب المنتحر الذي أبى إلا أن يتجرد من ملابسه الأنيقة رفيعة الذوق، قبل التجرد من الحياة.. ربما حتى لا تتسخ كما اتسخت حياة ابنته ونفسيتها، وهي التي لم تلفظ بنت شفة طيلة سني حبسها الاختياري تكلم أختها رمزا.. في الوقت الذي لم يخامر الشك فيه الوالد ولو ليوم واحد في أن ابنته خارج البلاد مع زوجها الذي رفضه، لقد خامره ضميره فباعه حر يقين ابنته البريئة على أنه عبد وهم. هنالك تأسى المفتش، تأمل وتألم، فقال: هذا ختام انعدام الحوار داخل الأسرة...

لا خوف أشد من حياة، بعد كل هذا الخوف، تعيد إنتاج مثل ذلك الخوف في صور أشد بشاعة، بعد أن اكتسبت الحياة حينها "مناعة".. ضد الموت والفناء.

فأي حياة هي تلك التي نتشبث بها بعد، أي حياة؟!