هل ما تعيشه واشنطن اليوم من ضائقة اقتصادية خانقة وفشل لغالبية ان لم يكن كل مشروعاتها للهيمنة والسيطرة على العالم مقدمة طبيعية للافول الامبراطوري القادم والعهدة هنا على الراوي المؤرخ الامريكي بول كيندي؟
الجواب نجده عند quot; بوب هيربرت quot; الكاتب الأمريكي عبر صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية وفيه يقول : أحيانا كثيرة أتساءل بيني وبين نفسي كيف سيجيب كل مواطن أمريكي عندما يطرح على نفسه السؤال التالي ماذا أضافت بالنسبة لي حرب العراق وماذا استفدته منها؟ ففي الوقت الذي تواصل فيه الحكومة الأمريكية إغداق الأموال على الحرب وإرسال الجنود إلى جبهة خطيرة في مغامرة لا تبدو لها نهاية تتغافل عن المشاكل المتجذرة في أمريكا نفسها والتي تضعف الجبهة الداخلية وتقوض تماسكها وتمهد لتراجع نفوذها على كافة الاصعدة الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية حول العالم وهو امر حادث بذات الفعل في الحال ناهيك عن ضريبته الفادحة واكلافه الباهظة في الاستقبال.
والشاهد أن واحدا من اخطر الأمور التي قادت إليها حرب العراق هي أن البلاد باتت شبه مكشوفة أمام القوى القطبية المناوئة لها والتي عرفت كيف تستغل المستنقع الأمريكي في ارض الرشيد لتعظ من أرباحها وصعودها في مقابل خسائر أمريكا.. ما معنى ذلك؟
منذ فترة كان الجنرال بروس رايت قائد القوات الأمريكية في اليابان يحذر من تنامي قوة الصين العسكرية مقابل القوة الأمريكية الآخذة في التراجع جراء الحرب في العراق والتي أثرت بشكل سلبي على جاهزية القوات وترسانة العتاد العسكري الأمريكي وفي هذا الصدد كان يصرح بالقول أن العراق استنزف الموارد المخصصة لاستبدال أو تحديث سلاح الجو وأوضح أن العمليات العسكرية هناك تستهلك الطاقة العملياتية القصوى للأسراب المقاتلة وفي المقابل عززت الصين أجوائها بأحدث المقاتلات العسكرية الروسية من طراز سوخوي SU-30 بجانب الطائرات المقاتلة الأكثر تطورا في العالم كما طورت الصين منظومة صواريخها البالستية الدفاعية كما أثبتت قدراتها على نقل المواجهات العسكرية إلى الفضاء عقب إسقاطها في يناير / كانون الأول من العام الماضي قمرا صناعيا مدنيا من مداره بالرغم من نفيها السعي إلى عسكرة الفضاء...
ومعنى ذلك انه لأول مرة في التاريخ الأمريكي المعاصر يشهد العالم دولة أخرى أي الصين تمتلك مقاتلات أحدث مما تملك واشنطن والتساؤل ماذا لو استمر التقدم الصيني العسكري على هذا المنوال غير المسبوق؟ مما لاشك فيه أن عدم انشغال حكومة بكين في نزاع عسكري يتيح لها تخصيص المزيد من المواد للتركيز على اكتساب قدرات عسكرية جديدة والمعروف أن حكومة بكين قد أعلنت في وقت سابق رفع الموازنة المخصصة لجيش التحرير الشعبي الصيني اكبر جيوش العالم بقوام يفوق مليوني جندي بواقع 17,8% هذا العام إلى قرابة 45 مليار دولار وتقدر وزارة الدفاع الأمريكية البنتاجون أن الموازنة تفوق الأرقام المعلن عنها بكثير وفي هذا السياق يمكن أن يفهم لماذا تعيش أمريكا بالفعل مرحلة تراجع ذهنية عن فكرة تغيير العالم.
والمتابع للساحة الداخلية الأمريكية سيما في زمن الانتخابات يستطيع أن يدرك بوضوح كيف أن التركيز بات ينصب على الأهداف والسياسات الداخلية الأمريكية ولم يعد يولي الملفات الخارجية الخاصة بتغيير العالم ونشر الديمقراطية وتعديل وتبديل الأنظمة في الكثير من البقاع والأصقاع جانبا كبيرا من الأهمية وفي هذا الصدد يمكننا قراءة المفكر الروسي فلاديمير سادافوي الواردة عبر كتاباته في وكالة نوفوستي الروسية للأخبار وفيها شرح واف شافي لهذه الإشكالية وعنده انه بدا واضحا تبرئ المرشحين جميعا من الرئيس الحالي جورج بوش الابن وحتى المرشح الجمهوري جون ماكين الذي أبدى تعاطفا رمزيا مع الرئيس بوش فقد عبر عن ذلك باختصار شديد وبصعوبة جعلته يبدو وكأنه يدافع عن خطا يخشى أن يكون له تأثير على حملته الانتخابية.
ولعل ما تقدم يدعونا للتساؤل :هل فشلت اطروحة عسكرة السياسات الامريكية حول العالم؟
في أواخر العام المنصرم 2007 كان البروفيسور quot; جيفري دي ساشي quot;أستاذ علوم الاقتصاد ومدير مركز الأرض في جامعة كولومبيا الأمريكية العريقة يتصدى لفض اشتباك هذه الإشكالية التي أثرت طولا وعرضا على شكل علاقات الولايات المتحدة بالعالم خلال سنوات إدارة بوش والتي رأت في الآلة العسكرية أفضل الحلول لأعقد المشاكل وهو ما أثبت فشله فشلا ذريعا الواقع العملي فالعديد من الصراعات حول العالم لن يتسنى حلها إلا من خلال التنمية الاقتصادية المستدامة بعيدة الأمد إلا أن الولايات المتحدة تصر على التعامل مع الأعراض بدلا من الظروف والأسباب الأساسية فتواجه كل صراع باللجوء إلى السبل العسكرية فهي تساند الجيش الإثيوبي في الصومال وتحتل العراق وأفغانستان وتهدد بقصف إيران وتساند ما يراه البعض ديكتاتورية في باكستان كل هذه الأعمال العسكرية لا تخاطب المشكلات التي أدت إلى اندلاع الصراعات في المقام الأول بل إن السياسات الأمريكية تؤدي دوما إلى تأجيج المواقف بدلا من حلها.
وفي كل مرة يرتد هذا التوجه العسكري إلى نحر الولايات المتحدة فقد شملت الولايات المتحدة شاه إيران بالرعاية والتدليل بإرسال كميات هائلة من الأسلحة التي وقعت في النهاية في يد حكومة إيران الثورية في أعقاب عام 1979 ثم ساندت الولايات المتحدة صدام حسين في حربه ضد إيران على أن انتهى بها الحال إلى الهجوم على صدام حسين ذاته.
كما ساندت الولايات المتحدة إسامة بن لادن في أفغانستان ضد السوفيت حتى انتهى بها الحال إلى محاربة بن لادن ومنذ عام 2001 ساندت الولايات المتحدة برويز مشرف في باكستان فأرسلت إليه ما يزيد على العشرة مليارات من الدولارات الأمريكية في هيئة معونات لكي تجد نفسها الآن وقد أصبحت في مواجهة نظام مزعزع لا يكاد تستقر في مكانه وبدون مغالاة يمكن القول أن السياسة الخارجية الأمريكية قد أصيبت بالعجز الكامل نتيجة لاستيلاء المؤسسة العسكرية عليها وحتى عمليات إعادة التعمير في العراق في مرحلة ما بعد الحرب تحت الاحتلال الذي تقوده الولايات المتحدة كانت تديرها وزارة الدفاع بدلا من الهيئات المدنية.
ولعل كلمات البروفيسور quot; جيفري دي. ساشي quot; تدفعنا للتساؤل الأخير : هل سيقدر للرئيس الأمريكي القادم أن ينتشل بلاده دفعة واحدة من وهدة هذا الجحيم؟ وكيف له أن يفعل هذا سيما بعد ان نجحت إدارة بوش وباحتراف في مخاصمة دول وجماعات في كافة البقاع والاصقاع وبرعت في كسب عداوات عبر تقسيمها المانوي للعالم بين معسكري الخير والشر؟
هذا الوضع بلا شك سيلقي على كاهل ساكن البيت الابيض الجديد بايجاد حل للاشكالية التالية : هل يجدر به أن يتحاور مع أعداء البلاد في محاولة لإنهاء خصومات ثأرية وخلافات إيديولوجية أم يمضي في طريق بوش الأحادي الاتجاه مما يزيد من الطين بلة كما يقال؟
في ابريل من عام 1981 كتب الرئيس الامريكي رونالد ريجان إلى الزعيم السوفيتي ليونيد بريجنيف في أوج الحرب الباردة يقول quot; انه سيرفع جظر الحبوب على الاتحاد السوفيتي ويسعى للحوار وكتب يضيف quot; إن لدى شعوب العالم رغم الاختلافات من حيث الأصول العرقية أشياء كثيرة مشتركة وتساءل ألا يجدر أن يكون منشغلين بإزالة الحواجز التي تحول دون تحقيق شعوبنا للأهداف التي تصبو إليها؟
منذ بداية فترته الرئاسية وبحسب quot; ميلفين ليفلر quot;- الرئيس المشارك في برنامج أمريكا الحاكمة في زمن عالمي ـ أدرك ريجان أن القوة هي خلفية للحوار وانه لا يمكن تحقيق الكثير بدون حوار مع خصوم البلاد فقد يكون العدو شريرا إلا انه يمكن إيجاد أرضية مشتركة وقد يكون الخصم شريرا ولكن التغيير يأتي وقد تكون الأنظمة السياسية قمعية ولكنها لا تظل كذلك إلى الأبد فهل سيتعلم الرئيس القادم الدرس من ريجان ويفتح نوافذ بلاده للجميع ويقيم حوارا مع الأعداء والأصدقاء أم يمضي في طريق بوش لتزداد المأساة الأحادية الأمريكية ويتاكد زمان الافول الامبراطوري؟.
كاتب مصري
[email protected]