في الدين والدنيا (5)

quot;مَن لا يعرف، من جميع الأديان إلا دينه، هو في الحقيقة لايعرف اي دينquot; (ادولف هارناك،لاهوتي)

في جميع الأديان الكبرى يتعايش سلميا دينان منفصلان: دين الإيمان ودين التاريخ؛ ما عدا الإسلام فما زال فيه إسلام الإيمان وإسلام التاريخ في حرب دامية. دين الإيمان هو علاقة حميمة بين المؤمن وربه، عبر ممارسة شعائره وتقديس كتبه، وأماكنه وشخصياته الدينية دون سؤال. أما دين التاريخ فسؤال كله؛ إذ هو علاقة بين الباحث ndash; بمن في ذلك المؤمن ndash; والدين، كموضوع بحث، على ضوء علوم الأديان مثل تاريخ الأديان المُقـَارَن، والسوسيولوجيا الدينية، والانتروبولوجيا الدينية، وعلم النفس، واللسانيات والاركيولوجيا (علم الآثار) الخ التي تطرح عادة من الأسئلة أكثر مما تقدم من الأجوبة.
في المجتمعات البدائية حيث كل شيء دين، وكل ما في الأرض مقدّس، لم يكن الفصل بين دين الإيمان ودين التاريخ ممكنا. في القداسة المعمَّمة العقل البشري عاجز عن دراسة العقل الإلهي. فقط بانتقال البشرية تدريجيا من الطبيعة إلى الثقافة يأخذ المقدَّس في التخلي عن مساحات أكبر فأكبر للفكر الدنيوي لدراسة الظواهر الطبيعية والاجتماعية. أسهمت الديانات التوحيدية، بما فيها الإسلام، في رفع القداسة عن الطبيعة التي غدت حينئذ مختبَرا للعقل البشري لإنتاج العلم والتكنولوجيا، لذلك يكره هايدغر، عدو العلم والتكنولوجيا، الديانات التوحيدية مفضلا عنها الأساطير الوثنية التي تضفي القداسة على الطبيعة حائلةً هكذا دون تحويلها لحقل للعلم والتكنولوجيا. لكن الديانات التوحيدية التي تطورت انطلاقا من المقدَّس احتفظت منه بإضفاء القداسة على بعض مؤسسات ومنتجات العقل البشري التي أصبغت عليها، بالشريعة، شرعية دينية مجردةً لها من شرعيتها المحايثة: شرعية العقل البشري، شرعية إرادة البشر الذين أنتجوها.
أسست الحداثة منذ 6 قرون الفصل بين العقلين الإلهي والبشري حاصرةً الدين في الفضاء الخاص، الروحي، بما هو شأن الضمير الفردي وتاركةً للعقل البشري إدارة الفضاء العام، الزمني، بقوانين وضعية وعقلانية ودراسة ظواهر الطبيعة والمجتمع بما فيها الظاهرة الدينية بالعلوم المختصة فيها. وهكذا يبدو إدعاء الإسلام السياسي حق التحكم في الشأن الدنيوي بواسطة حكومة الفقهاء نكوصا إلى حقبة تجاوزها التطور التاريخي. فما كان في الطبيعة والمجتمع يفسره الدين باتت تفسره العلوم المختصة. ولا تنازعها في ذلك الديانات الراشدة؛ الدين الراشد هو الذي يتخلى عن الشأن الدنيوي لأهله منتقلا من quot;شريعة الظاهر إلى شريعة الباطنquot; كما سمّاها المتصوفة المسلمون، أي الانتقال من التديّن الموسوس السادي الذي يراقب ويعاقب متلصصا على حميميات الناس من ثقب الباب لإحصاء أنفاسهم وفرض النظام الأخلاقي عليهم، إلى التدين المسالم، الفردي الذي يكون فيه المؤمن مسؤولا عن نفسه فقط ومحترما لخيارات الآخرين الدينية والدنيوية. وهذا ما حققته، في أرض الإسلام، حكومة طيّب رجب أوردوغان الإسلامية بإلغائها للعقوبات الشرعية السادية: عقوبة الإعدام، والزنا، والمثلية والردة معترفة دستوريا للمسلم التركي بالحق في تغيير دينه وبالاحرى بالبحث الحر فيه. وهي مهام ملحة ما زالت تنتظر الانجاز في باقي أرض الإسلام التي يحكمها غالبا الجبن السياسي. بالتوازي مع هذا الانجاز التاريخي، هي الآن بصدد تحقيق انجاز تاريخي ثان هو تفسير القرآن، على ضوء القراءة التاريخية النقدية التي أُعيد بها تعريفُ النصين اليهودي والمسيحي، لإعادة تعريف النص القرآني بها أيضا بإلغاء ما نسخه التطور التاريخي من أحكامه؛ وكمؤشر قوي على بداية تسلل الحداثة إلى المشروع الإسلامي المضاد لها، فإن قادة الحركات الإسلامية ndash; باستثناء التونسية ndash; لم يستنكروا حتى الآن هذه quot;البدعةquot; غير المسبوقة في أرض الإسلام. هذان الانجازان الواعدان يؤسسان للاعتراف الرسمي بشرعية إسلام التاريخ ليستطيع الإسلام أخيرا الوقوف جنبا لجنب مع اليهودية والمسيحية والهندوسية والبوذية مرفوع الرأس فلا يعود خَجِلا من محاكمة باحثيه مثل د. نصر حامد أبو زيد، ولا من اغتيالهم مثل فرج فودة ولا من شنقهم مثل محمد محمود طه، ولا من سجنهم مثل محسن كاديفار، ولا الحكم عليهم بالإعدام مثل علي أغجري، ولا ارغامهم على الهجرة مثل عبدالكريم سورش... كيف يستطيع إسلام التاريخ تحقيق هذا الهدف؟
1-بالفصل بين القرآن والعلم. الدين بما هو رموز لا يستطيع تفسير الظواهر علميا، حسبه مجرد التعبير الرمزي والمجازي عنها كما فعل المتصوفة. أما العلم، فهو الوحيد المختص في فهمها وتفسيرها بالخطأ القابل للتصحيح حينا وبالحقيقة القابلة للاكتمال حينا. الدين يفسر الدين والطبيعة بالدين. أما العلم فيفسر الدين بعلوم الأديان والطبيعة بعلومها.
2- بتصحيح ميل إسلام الإيمان إلى انتزاع أحكامه وشريعته من السياقات التاريخية التي أنتجتها لجعلها عابرة للتاريخ، أي صالحة لكل زمان ومكان. أما إسلام التاريخ فينزّلها في ظروفها التاريخية. عندئذ تغدو، ككل ما هو تاريخي، خاضعة لقانون التطور إذن مؤقتة. وهكذا تصبح الشريعة غير صالحة لجميع الأزمنة ولجميع الأمكنة. وهذا اليوم واقع معيش، فالدول الدينية كإيران والسودان والسعودية أُضطرت إلى نسخ كثير من أحكام الشريعة عندما طبقت القوانين التجارية والبحرية الوضعية وتعاملت مع المصارف العالمية quot;الربويةquot; واستثمرت في quot; قمارquot; البورصة، وأقامت العلاقات الدبلوماسية مع quot;دار الكفرquot; بل وحتى مع quot;دار الأوثانquot; كالهند والصين والكوريتين واليابان... بل وارتبطت مع بعض دولهما بصداقات حميمة أحيانا. أما الحكومة الإسلامية في تركيا فقد نسخت ما أبقت عليه عَلمانية أتاتورك من أحكام شرعية... وهي جميعا انتهاكات محرمة ومجرمة شرعا. ألا ينهض ذلك دليلا على عدم صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان؟ قال الامام مالك: quot;عدول كل زمان بحسبهquot; ونقول نحن : شرائع كل زمان بحسبه.
3-بدراسة شخصيات الإسلام وتاريخه بعلوم الحداثة مفككا أسطورة quot;العصر الذهبيquot; وتقديمه على حقيقته بلا أوهام، بإنجازاته وإخفاقاته. ألم يستنكر ابن خلدون، السني الأشعري، أمر عمر حرق مكتبة فارس؟ وبتفسير الفتنة الكبرى بفشل الشورى في إقامة حكم مستقر ورشيد، وليس بـquot;مؤامرة اليهودي، ابن السوداء، عبد الله بن سباquot; الذي اخترعته البارانويا الجمعية لتبرئة الذمّة. الوسيلة المثالية لذلك هي تاريخ الأديان المقارَن الذي يكشف وَحدة الظاهرة الدينية في جميع الأديان الوثنية والتوحيدية. وبتحليل العوامل التاريخية التي جعلت الإسلام ينتصر داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها. ثم يأتي دورعلم النفس لكشف وتحليل الدلالات اللاشعورية لشعائره والبواعث والأعراض النفسانية لشخصياته المؤسِّسة وفهم نصوصه وأماكنه المقدسة وشخصياته التاريخية ومجازاته اللغوية ومنطقه الخاص ومذاهبه وفرقه المتنافسة، التي تدعي كل منها أنها quot;الناجيةquot;؛ ويأتي دور السوسيولوجيا الدينية لفهم الدوافع المختلفة التي دفعت وما تزال الفاعلين الاجتماعيين، في كل عصر ومصر، الى استخدامه تحقيقا لمآربهم الدنيوية وهذياناتهم الدينية التي برروا بها قتل النفس في سبيل الله وقتل الأبرياء باسم الله من جمعية الحشاشين إلى حركات الاستشهاديين المعاصرين. وهكذا فوظيفة إسلام التاريخ هي مساءلة ما تركه إسلام الإيمان دون مساءلة والإجابة عما تركه إسلام الإيمان بلا إجابة. بهذا المسعى يُستعاد الإسلام وتراثه ومؤسسوه من الميتا تاريخ (= التاريخ الذي صنعته حتميات إلهية لا تأثير للإنسان فيها) إلى التاريخ الذي تحكمت فيه حتميات وإمكانيات بشرية. وحده إسلام التاريخ، باستخدامه لعلوم الأديان وخاصة لتاريخ الأديان المقارَن، يساعدنا على الانتهاء من النرجسية الدينية المنحدرة من الاثنية المركزية البدائية، quot;لا خلاص خارج الإسلام، الدين الحق، الإسلام هو الحل لمشاكل المسلمين والعالم، لا وجود لديانات أخرى، اليهودية والمسيحية كانتا شريعتين نسختهما الشريعة الإسلاميةquot; الى أخر هذا الهذيان النرجسي الذي قد يشفي منه تاريخ الأديان المقارَن، عندما يقدم الإسلام، كأي دين، كإحدى الوقائع الثقافية التي اقتبست شعائرها من الثقافات السابقة لها كاليهودية والمسيحية والمانوية، منهذه الأخيرة اقتبس الإسلام كثيرا من عقائده quot;كختم النبوة و4 من أركانه الخمسة، الشهادة، الصلاة، الزكاة والصومquot; (معجم القرآن ص 250)، لجعله قادرا على وضع نفسه موضع تساؤل وشك مُخرجا له من قوقعة يقينياته العتيقة. وَحدة الواقعة الدينية الإسلامية مع الوقائع الدينية السابقة لها، بفعل عوامل متضافرة كتطور الفكر الرمزي والتلاقح الثقافي ووَحدة اللاشعور الجمعي، يجعل النرجسية الدينية غير ذات موضوع، ويجعل في الوقت نفسه الحوار بين الأديان ممكنا لقطع الطريق على حرب الأديان العالمية ndash; والنووية ربما. ndash;
تاريخ الأديان المقارَن، الذي هو محور إسلام التاريخ، بالرغم من كونه علما حديثا له جذور في الفكر الإسلامي الكلاسيكي؛ يروي الطبري في تفسيره أن عمرو بن العاص وعمرو بن ديناراختلفا في قراءة الآية 86 (الكهف): quot;حتى إذا بلغ (= ذو القرنين) مغرب الشمس وجدها تغرُب في عين حمئةquot; قرأها عمرو بن العاص quot;حمئةquot; وقرأها عمرو بن دينار quot;حاميةquot;، فاحتكما إلى بن عباس الذي احتكم بدوره إلى كعب الأحبار، اليهودي الذي أسلم،: quot;ماذا عندكم في الكتاب يا كعب؟ أجاب إنها تغرب في عين فيها ثأط، أي طين أسودquot; فحكم عندئذ لقراءة عمرو بن العاص. لم يستطع بن عباس تفسير حمئة إلا بعد مقارنتها بما في النص اليهودي. ولولا كعب لأعلن تعليق الحكم لتعذر الترجيح بين القراءتين. يقول مؤرخ الحضارات ارنولد توينبي إن quot;الإسلام هو الديانة اليهودية الثانيةquot; نظرا لوَحدة الحقيقة الدينية بين الديانتين؛ ويفترض فرويد، حسب نظريته عن عودة المكبوت التي أكدها علم المصريات المعاصر، أنه بعد التثليث المسيحي، كان الإسلام هو عودة المكبوت اليهودي: التوحيد. ماذا أقول؟ بل أن القرآن نفسه يعترف بأنه نسخة من الكتب المقدسة اليهودية: quot;إن هذا لَفي الصُحف الأولى، صُحف ابراهيم وموسىquot; (18، 19 الأعلى). (quot;قال رسول الله صل الله عليه وسلم : هي كلها في صحف ابراهيم وموسىquot;، وعن بن عباس: quot;قال نُسخت هذه السورة من صُحف ابراهيم وموسىquot;، quot;وعن قتادة: تتابعت كتب الله كما تسمعونquot;، وعن الحسن رضي الله عنه قال: quot;في كتب الله كلهاquot;) ( السيوطي، الدر المنثور في التفسير المأثور ج 6 ص ص 570، 571). أسطورة خلق الكون وخلق آدم وحواء والطوفان اقتبسها القرآن من سفر التكوين وبدوره اقتبسها سفر التكوين من ملحمة جلجامش والأساطير السومرية والبابلية الأخرى. لكن، بما أن كثيرا من النخب الإسلامية هي اليوم في هذيان يبدو مزمنا، نجد د. عبدالصبور شاهين يتزعم، من جامعة القاهرة، المطالبة بـquot;تطهيرquot; تفسير الطبري من الإسرائيليات، ود. مصطفى أبو هندي، من جامعة الحسن الثاني، يطارد نفس الفكرة الثابتة في كتابه: quot;التأثير المسيحي في تفسير القرآنquot;: quot;السؤال المحوري (...) إلى أي حد استطاع علم التفسير أن يعين القارئ على التعامل الجيد مع النص القرآني؟ (...) ما زال السؤال مثارا عن دوره (...) في تمرير معان أخرى غير قرآنية مأخوذة من اليهود والنصارى (...) في رسالتي quot; العقائد الإسرائيلية وأثرها في توجيه التفسيرquot; (...) (قلت) ما يوجد في كتب التفسير من عقائد منحرفة مأخوذة من الإسرائيليات، إنما يرجع إلى العلوم الإسلامية وعلى رأسها علم التفسيرquot; (ص 5) quot;إن الدارس لهذه الأشراط (= علامات قيام الساعة) يتكشف أن في الأمر ضلالا كبيرا ساهمت فيه المرويات اليهودية والمسيحية وما تأثر بها من مأثورات إسلامية عن الصحابة والتابعين وغيرهم ممن تتلمذوا على أهل الكتاب quot; (ص 203). في كتاب هندي ليس تفسير الطبري وحده هو المحشو بالإسرائيليات بل التفاسير كلها عدى 3 فقط منها تفسير سيد قطب!
مسايرة لهذا المنطق المهووس بـوهم quot;نقاءquot; الإسلام من quot;لوثةquot; اليهود والنصارى تكون الخطوة القادمة هي المطالبة بـquot;تطهيرquot; القرآن الكريم نفسه من الإسرائيليات والنصرانيات. البداية قد تكون بقصص الأنبياء جميعا والضحية الأولى قد تكون سورة يوسف المتماثلة في الروايتين الرمزيتين اليهودية والإسلامية!
يا صناع القرار التربوي اتقوا الله في شبابكم. درّسوهم الثلاثي، إسلام التاريخ، وحليفه إسلام التنوير والإسلام الشعبي؛ إسلام التاريخ يعلمهم الفصل بين الإيمان والحقيقة العلمية، بين الدين والعلم، بين العلوم الشرعية وعلوم الأديان الحديثة كما يعلمهم الانفتاح، في عصر ثورة الاتصالات ومجتمع المعلومات العالمي، على جميع الاديان الميتة والحيّة عبر تدريس علم الاديان المقارن. لماذا؟ ليفهم الاسلام فهما تاريخيا يحميهم من تلاعب حركات المنتفعين به ويساعدهم على الاندماج في بوتقة الانصهار الثقافي العالمي؛الإسلام التنويري يعلمهم الإيمان بما هو قناعة ذاتية داخلية يكوّنها كل فرد انطلاقا من تاريخه الشخصي الخاص؛ الإسلام الشعبي، طلب شفاعة الأولياء، يقدم لهم ملاذا نفسيا ndash; روحيا ناجعا ضد القلق الوجودي والأمراض النفسُ ndash; جسدية التي ما زال الطب يقف أمامها حائرا في ارض الإسلام حيث العلاجات النفسية نادرة وبدائية... وليعطي به من شاء معنى لحياته ndash; فقط الدين والفلسفة يعطيان للحياة معنى -. الإسلام الشعبي، عبادة أسلاف حية وتجربة روحية، فردية صامتة أو جمعية صاخبة، لا تطالب، عكس عبادة الأسلاف الشرعية، لا بتطبيق الشريعة ولا بالجهاد وأقل من ذلك بحكومة الفقهاء. كما لاتغلق الوعي الجمعي، دون الحداثة، بالضبة والمفتاح. إذا كانت عبادة الماضي، عبادة الأسلاف وعصرهم الذهبي ضاربة في أعماق النفس البشرية بما هي حنين إلى طفولة ما قبل الفطام (8 ndash; 10 شهور) حيث كان الرضيع يرى نفسه امتدادا بيولوجي للأم... فدرّسوا عبادة الأسلاف في الإسلام الشعبي المسالم بدلا من عبادة الأسلاف في الإسلام الجهادي المحارب.

نراكم الأحد المقبل