الإهداء: إلى هاشم صالح، أحد رواد التنوير في أرض الإسلام التي ما زالت في خطر الظلامية الإسلامية كما يشهد على ذلك كتابه: quot;الانسداد التاريخي: لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي؟quot; دار الساقي ndash; رابطة العقلانيين العرب

quot;هذا القرار لا يرضيني، ولكنني أرفض أن أرفضquot; (دافيد بن غوريون)


قسّمت لجنة PEEL البريطانية سنة 1937 فلسطين فأعطت 80 % منها للفلسطينيين و20 % لليهود. سارع زعيم فلسطين ومفتيها، الحاج أمين الحسيني، إلى رفض القرار لأسباب دينية: فلسطين كلها وقف إسلامي على جميع المسلمين في العالم، ولا يجوز التفريط في شبر واحد منها لليهود! أما زعيم اليهود، دافيد بن غوريون، فكان ردّه المدروس: quot;بالتأكيد، هذا القرار لا يرضيني، ولكنني أرفض أن أرفضquot;. أما الشريعة اليهودية، التي قلدتها الشريعة الإسلامية، التي تحرم على اليهودي التفريط في شبر واحد من أرض إسرائيل للأغيار (=الكفار)، فإن عقل بن غوريون الحديث كان يفكر فيها كما يفكر بميت. استعادت حماس في ميثاقها، على نحو قهري، رفضي 37 و47 بعبارات فقهاء القرون الوسطى: أرض فلسطين وقف... لا يجوز التفريط في شبر منها. كما في الذهنية السحرية، الاسم يساوي المسمّى. حسبك ان تقول لا quot;تفريطquot; حتى ينتفي، سحريا، التفريط، وإن كان التفريط يجري على ارض الواقع على قدم وساق!
التذكير الدائم بهذه الواقعة، التي ترقى إلى مستوى الفضيحة السياسية، ضروري لتعي الأجيال الشابة خطر هذيان quot;المؤامرةquot; على quot;فلسطين السليبةquot; أو خطر التسلي بالمازوشية الدينية: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا لتبرير المصائب التي يسببها الخلط بين احكام الفقه ومبادئ السياسة؛ ولتعي هذه الأجيال أكثر خطر تأجيل الانتقال من الفقه إلى السياسة. استشار أمين الحسيني الفقه بما هو أحكام جامدة فأضاع وطن شعبه، واستشار دافيد بن غوريون السياسة بما هي فن الممكن الذي تسمح به موازين القوة في زمان ومكان محددين فكسب وطنا لشعبه. نقد الذات، بدلا من نقد بعبع الآخر، هو الذي يساعدنا على فهم أخطاء الماضي مما قد يساعد على عدم تكرارها شبه القهري كما في الحالة الفلسطينية منذ 70 عاما!
شعار العناد العصابي: quot;كل شيء أو لا شيءquot; هو استعادة لاشعورية للشعار الفقهي quot;لا تفريط في شبر واحد من أرض فلسطينquot; الذي أضاعها إلى آخر شبر فيها على امتداد 70 عاما من 37 إلى 47 وأخيرا إلى 2000 عندما رفض عرفات، وقد تقمص شخصية مفتي فلسطين، مقترحات كلينتون التي هي أفضل ما قد يحصل عليه الفلسطينيون، في السيناريو المتفائل، هذا العام أو بعد 10 أعوام. القطيعة مع هذا العناد العصابي، الذي يحاصر عقل العصابي فلا يعود قادرا على التفكير المنطقي، ضرورية. وهو مرض موروث من أحد أطوار الطفولة الأولى، الطور الشرجي عندما كانت الأم تساوم طفلها على التبرز والتبوّل قبل النوم وهو يرفض المساومة. والمساومة، لغة، هي المفاوضة. فإلى متى يبقى زعماء الرفض الفلسطينيون متسمرين، سياسيا، في الطور الشرجي من نموهم الذهني؟ المعروض على المفاوض الفلسطيني اليوم هو إما اتفاق جزئي ناجز لكن يؤجل الحسم في القضايا الشائكة مثل القدس واللاجئين، وإما quot;اتفاق مبادئ يوضع على الرفquot; لعشر سنوات، بانتظار حل الصراع العشائري بين حماس وفتح، الموروث بدوره عن طور طفولي من أطوار الفكر الديني - السياسي الفلسطيني هو التنافس بين آل الحسيني وآل النشاشيبي على من يكون الأول في السباق إلى التفريط في حقوق الشعب الفلسطيني؟ يبدو أن المفاوض الفلسطيني رفض العرضين مطالبا باتفاق quot;الحل النهائيquot; في حدود 67 وحل جميع المشاكل الشائكة من القدس إلى اللاجئين...
في السياسة، رفض عرض الخصم لا يكون بظهر اليد في سورة غضب، بل تسبقه دراسة علمية للبدائل الممكنة للعرض المرفوض. هل للمفاوض الفلسطيني بدائل واقعية لم يُكشف عنها؟ لست أدري. لكن إذا كانت البدائل هي quot;الدولة ثنائية القوميةquot; (1968-1973) كما يطالب الآن سري نسيبة الذي ندم كما يبدو على quot;غلطةquot; اعتداله، أو انتفاضة كتائب القسام والأقصى التي جُربت وفشلت كما يطالب آخرون، فذلك سيكون دليلا أخيرا على أن القيادات الفلسطينية لم تنس شيئا من تكذيب التاريخ لأوهامها ولم تتعلم شيئا من أخطاء ماضيها. حسبي تنبيه عقلاء الفلسطينيين، كما فعل قبلي، دون طائل، الحبيب بورقيبة في خطاب أريحا، إلى التفكير في ما لم يفكروا فيه بعد، في الخيارات الواقعية تجنبا لكارثة تقسيم، ربما يكون أخيرا، لفلسطين قد يعطي غزة لحماس ndash; أو لمصر ndash; والضفة الغربية للأردن واسم فلسطين إلى أرشيفات التاريخ. هذه الكارثة ليست مجرد إمكانية بل احتمال. حل المسألة الفلسطينية ضرورة، إقليمية ودولية، لاستقرار الشرق الأوسط حيث النفط وبترودولاراته الضرورين للاقتصاد العالمي المأزوم ولن تنتظر الدبلوماسية الدولية طويلا حتى يُشفى بعض القادة الفلسطينيين من عنادهم.
الخطوة الأولى للشفاء من العناد هي النقد الذاتي، الاعتراف بأن كثيرا من الفلسطينيين وكثيرا من العرب وكثيرا من المسلمين هم أعداء أنفسهم وصنّاع مآسيهم، وليس الماسونية او الصهيونية او الامبريالية او الشيوعية او العولمة او النظام الدولي الجديد التي اتخذها الخطاب التضحوي تُكأة للنكوص الى الطور الصبياني من التظلم. عجز القيادات الفلسطينية حتى الآن عن الاتفاق على برنامج وطني تفاوضي هو المسؤول الأول عن فشلهم في تحقيق مشروعهم الوطني. تاريخ القرن العشرين يعلمنا إنه لم توجد حركة تحرر وطني واحدة انتصرت وبعضها يحارب البعض الآخر. الحركة الصهيونية كانت أحزابا سياسية شتى ولكن كانت بندقية واحدة وقرارا سياسيا واحدا. وهذا هو، بعيدا عن هذيان المؤامرة، أحد أهم أسرار انتصارها.
المبادرة المصرية للمصالحة الفلسطينية، التي يشرف على تفعيلها أحد أدمغة مصر المفكرة، الوزير عمر سليمان، قد تكون الفرصة الأخيرة للخروج من عجز فتح عن صنع السلام وعجز حماس عن صنع الحرب. وهي ولا شك بالنسبة لعقلاء حماس فرصة ثمينة لكسر الحاجز النفسي الذي أعاقهم حتى الآن عن الانتقال الحاسم من الدين إلى السياسة، من الالتزام بأحكام الشريعة في السياسة إلى الالتزام بقرارات الشرعية الدولية: الاعتراف بقرار الأمم المتحدة بإنشاء دولة إسرائيل والتفاوض معها على ميلاد الدولة الفلسطينية. بالتأكيد، اعترف رئيس مكتب حماس، خالد مشعل، بإسرائيل quot;كأمر واقعquot;، لكن نصف الاعتراف يساوي في القانون الدولي صفر اعتراف. المطلوب اعتراف قانوني بها لا يكلف حماس شيئا غير بيان رسمي يعترف بـquot;جميع قرارات الشرعية الدولية التي اعترفت بها م. ت. ف. والسلطة الوطنية الفلسطينيةquot;. كلمات معدود ولكن تاريخ فلسطين سيكتبها بماء الذهب. لأنها ستكون وقود قاطرة السلام الفلسطيني الإسرائيلي المعطلة. سلمت حماس، في حياة الشيخ أحمد ياسين، بالتخلي عن بعض المواد المركزية في ميثاقها، مثل تحرير فلسطين حتى آخر ذرة تراب وإعادتها وقفا على جميع المسلمين في العالم، في مقابل دولة فلسطينية في حدود 67، وبالتخلي ضمنا عن الجهاد إلى قيام الساعة، ولكن منذ انتصارهم الانتخابي بدأ قادة حماس ndash; أو البعض منهم ndash; كما لو كانوا قد أصيبوا quot;بعقدة هاملتquot; الشهيرة: quot;جنون الترددquot; المميت في العمل السياسي الذي يتطلب الحسم بين وجهتي نظر بعد تعبير كل منهما بحرية عن نفسها، فلم يستطيعوا دفع اعتراف مؤسسها ضمنيا باستحالة تحرير فلسطين الانتدابية واعتراف رئيسها الحالي بـquot;إسرائيل كأمر واقعquot; إلى أقصى نتائجهما المنطقية. الاعتراف القانوني بإسرائيل والتفاوض معها كما تفعل السلطة الوطنية الفلسطينية، مدعومة من معظم الفصائل الأخرى. يتطلبالمنطق في أدنى تعريفاته ممن أراد دولة فلسطينية في حدود 67 أن يريد أيضا طريق الحصول عليها: الاعتراف والتفاوض. لأن الدولة الفلسطينية ليست السيد المسيح لتولد من quot;حبل دون دنسquot;! فإلى متى يبقى عقلاء حماس رهائن لسفهاء كتائب القسام (افترض أن بينهم عقلاء) الذين بات العنف طبيعة ثانية فيهم مثل بعض قدماء حرب فيتنام الذين لم يتوقفوا عن إطلاق النار على المدنيين الأمريكيين في الحانات والشوارع كاستعادة لاشعورية لنوبات قتلهم للفيتناميين. مَن تحلّل من محرّم القتل مرة يتحلل منه إلى الأبد. هذا هو قانون النفسية البشرية المسكونة بالضغينة القديمة، بالرغبة المتأصلة في القتل. لو كنت مكان عقلاء حماس لقبلت، دون خلفيات سياسوية أو quot;حيل فقهيةquot;، المصالحة الفلسطينية التي يسهر على تفعيلها الجنرال عمر سليمان، لأنها ستكون جسر انتقالهم من مقدمات مواقفهم، التي انتهكت بعض محرّمات ميثاق حماس، إلى نتائجها المنطقية. التهدئة ليست غاية في حد ذاتها بل جسر للعبور إلى التفاوض، قبول حماس بهاوحرصها الشديد عليها إلى درجة قتلها لمن يحاول انتهاكها من عناصر الجهاد الإسلامي (الم يتردد د. محمود الزهار، على طريقة الكذبة السيكوباثيين في تلفيق التهم الكَذبة لشيطنة خصومهم في وصفهم بـquot;الجواسيسquot; لأنهم quot;يطلقون النار على quot;سدروتquot;؟). التهدئة وquot;حراسةquot; حماس لحدود إسرائيل كما يقول خصومها ربما كانتا مؤشرا مشجعا لبداية تخلص حماس من أحلام اليقظة الجهادية للتصالح مع الواقع العنيد. ووظيفتها هي قطع الطريق على quot;جنرالات الاحتياطquot; الذين قال عنهم أيهود أولمرت بأنهم ما زالوا مصرين على أن خيار الحرب مع الفلسطينيين والسوريين هو أفضل من خيار السلام.
قال الأمير بندر بن سلطان أن قادة حماس وعدوا، غداة انتخابهم، بإقناع قواعدهم خلال ثلاثة شهور بالاعتراف بإسرائيل. فلماذا لا يفاجئون الشهر القادم الوزير عمر سليمان بما وعدوا به حتى لا يكون وعدهم غير مكذوب؟ لا شك أنهم خائفون من قواعدهم، قطاع من كتائب القسام، حسبهم الاقتداء بروزفلت: quot;الشجاعة السياسية هي عدم الخوف من الخوفquot;. وبعد ذلك وقبله يفترض في حركة سياسية أنها في خدمة المصلحة العامة لشعبها، فهل من مصلحة هذا الشعب أن يبقى بلا دولة ومحاصرا ومُجَوعا لا لشيء إلا لأن قادته خانتهم الشجاعة السياسة؟ حماس في منعطف حاسم يفرض عليها أن تنتفض على ذاتها لتعيد اختراع ذاتها حتى تكون في مستوى التحديات التي يواجهها شعبها في عالم بالغ التعقيد والتشعب، الشعارات البسيطة والصيغ الخطابية قليلة الجدوى في التعامل معه.
سفهاء إسرائيل وسفهاء الدول العربية وكبير سفهاء إيران أحمدي نجاد، لم يعوا بعد جسامة التحديات الجديدة المطروحة على شعوبهم، وهي أساسا تحديات مناخية لكل شعوب الشرق الأوسط. ندرة المياه والتصحّر ناهيك عن الانفجار السكاني. تعاون جميع دول الشرق الأوسط لمكافحة نتائج الاحتباس الحراري الكارثية تتصاغر أمامها جميع الانتفاضات، التي لم تنجح إلا في تأخير وربما تدمير عملية السلام، وجميع الحروب الظافرة، لـquot;احتلال تلة هنا وتلة هناكquot;، كما قال إيهود اولمرت، التي لم تجر على شعبي إسرائيل وفلسطين إلا المآسي.
لا شيء أفضل من السعي الحثيث إلى التكامل الإقليمي بين الدول العربية وإسرائيل وتركيا وإيران المسالمة في سبيل تقاسم المياه والطاقة والاستثمارات ونتائج التكنولوجيا الجديدة، هذه الأخيرة تنفرد بها إسرائيل، في الشرق الأوسط. نتائج التكنولوجيا الجديدة هي رهان التقدم في القرن الـ21، وإنشاء مناطق تبادل حر تمهد لسوق شرق أوسطية ضرورية في عصر العولمة الذي تدور فيه المنافسة الاقتصادية ليس بين دول قومية، مهما كان حجمها، بل بين تكتلات إقليمية عابرة للقوميات.
مازال الجمود الذهني يعمي بصائر الكثير من الفاعلين السياسيين في الشرق الأوسط فلا يرون إلا quot;مزاياquot; استمرار احتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية أو الحنين السقيم لتحرير فلسطين الانتدابية والهوس الجنوني بامتلاك القنبلة الذرية... ولا يرون التحديات الحقيقية. ولكن، الحقائق على الأرض هي التي ستفرض في النهاية على الجميع وعيها ووعي ضرورة التعاون الجماعي العربي ndash; الإسرائيلي ndash; التركي - الإيراني لرفعها بدلا من هدْر الوقت والمال والدم في الجدلية القاتلة: جدلية الحرب والمقاومة.
ولمثل ذلك فليعمل العاملون ويفكر المفكرون.