وسط حالة الضبابية المغرقة التي يعيشها العالم بعامة والعرب والمسلمين بخاصة يتصاعد من جديد ذلك التساؤل القديم هل الخلاص في العلمانية؟ غير انه اذا كانت العلمانية لم تصلح بالمطلق احوال الغرب فكيف لها ان تعدل موازين الحياة وتعيد ترتيب البيت العربي الذي بدا مؤخرا في حالة رثة فكريا وثقافيا، اقتصاديا وسياسيا؟
هذا التساؤل في واقع الحال والذي يتردد بين جنبات احاديث المثقفين والنخبة يفرضه ظروف مكاني وزماني غاية في الاهمية والخطورة في ان واحد هو تصاعد المد الراديكالي الاصولي بعد ان خبا بريق العلمانية.
وعند ساخر بريطانيا الشهير اللاذع جورج برناردشو انه quot; عند العاصف يلجا الانسان الى اقرب مرفا quot; فهل يعني ذلك ان مرفا الدوجمائيات وحتى لو كانت اصولية وارف الظلال عن مرفا العلمانية التي بدت كثيرا جافة؟
التساؤلات اوسع واعرض من الاجوبة بمكان على ان الامر يقتضي لانعاش الذاكرة عودة الى بعض المفاهيم والمصطلحات للوقوف بداية عند آية علمانية نتحدث والى اي نسق منها نتطلع.
بحسب لاقواميس الفلسفية فان لفظ العلمانية مشتق من العالم، وفي اللغات الافرنجية مشتق من اللفظ اللاتيني Saeculum اي العالم.
غير ان ثمة لفظ اخر لاتيني يعني العالم هو Mundus والفارق بين اللفظين اللاتينيين هو ان الاول ينطوي على الزمان والثاني على المكان ولهذا وجدنا للعالم لفظة اخرى في اللاتينية هي Cosmos اي الكون او الجمال والنظام.
وبدون اغراق في مصطلحات فلسفية فان لفظة Mundus تعني ان التغير حادث في العالم وليس حادثا ل quot; العالم اما لفظ Saeculum فيعني ان العالم متزمن بالزمان اي ان له تاريخا ومن ثم فالعالم محكوم بالزمان والتاريخ.
ولعل الخلاصة المؤكدة هي ان العلمانية نسق محكوم في اية حالة بمعطيات الزمان ومقدرات المكان وهذا ما جرى في اوربا quot; المكان quot; مع حلول عصور التنوير quot; الزمان quot; وانطلاقة فصل الدين عن الدولة.
لبرؤية اكثر تحديدا فقد جرى فرز وتمييز بين العلمانية بمفهومها الضيق والتي اطلق عليها العلمانية الجزئية و تتمثل في فصل الكنيسة عن الدولة ويوسع البعض هذا التعريف ليعني فصل الدين والدين وحده عن الدولة بمعنى الحياة العامة في بعض نواحيها وبين علمانية اخرى اطلق عليها العلمانية الشاملة والتي لا تفصل فقط الدين عن الدولة وعن بعض جوانب الحياة العامة وانما تفصل كل القيم الدينية والاخلاقية والانسانية عن كل جوانب الحياة العامة في بادئ الامر ثم عن كل جوانب الحياة الخاصة في نهايتها الى ان يتم نزع القداسة تماما عن العالم.
والشاهد ان العلمانية سيما في العقدين الاخيرين من نهايات القرن المنصرم قد تعرضت لحالة من التطرف الشديد اذ مضت اوربا الى علمانية جافة وذهبت الولايات المتحدة الامريكية الى نسق مغاير يمكن ان نطلق عليه علمانية ـ دوجمائية التبس فيها الدين بالسياسي وعادت القيم الدينية الى احتلال مواقع اكثر فاكثر قوة ما تجلى في الانتخابات الرئاسية للاعوام 2000 و 2004 فيما العالم العربي والاسلامي والذي كان قد قطع شوطا بعيدا في النصف الاول من القرن المنصرم لجهة الليبرالية والديمقراطية في عدد من الدول العربية عاد ثانية الى اقرب مرفا quot; الدين quot;، وحدث ان اضحى المفهوم السائد عن العلمانية انها صنو للكفر والالحاد.
والمقطوع به ان ذلك الفكر يستدعي تساؤل كيف نظر مجددو الاسلام في نهايات القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين للفكر العلماني او ما يمكن ان يطلق عليه التاويل العلماني للاسلام؟
يمكن الجواب بادئ بدء بالقول ان الاسلام لم تكن بينه وبين العلمانية يوما شقاق او فراق فلا سلطة ثيؤلوجية فيه تحتاج الى الفصل عن الدولة المدنية وهذا ما ادركه الاستاذ الامام محمد عبده وقد راى ان مفهوم العلمانية تاكيد لمبادئ الاسلام وتعاليمه وهو الذي قضى قضاءا مبرما لم يسبق اليه احد على السلطة الدينية من جذورها وانه يمثل بالتالي الدين العقلي من دون منازع ومن جانبه لم يخف جمال الدين الافغاني في رده على ارنست رينان الكاتب والمؤرخ الفرنسي الشهير والذي دعا لنقد المصادر الدينية نقدا تاريخيا علميا مثل هذا الموقف.
اذن لماذا حدث اشتباك في المفاهيم بين العلمانية والاسلام سيما عند المحدثين من الاسلامويين ان جاز اللفظ؟
ربما يكون المفكر السوري الدكتور برهان غليون افضل من اجاب مؤخرا على هذا التساؤل حيث اشار الى ان سبب سوء الفهم الذي لايزال يصبغ الحديث عن العلمانية في المجتمعات العربية عند انصارها وخصومها معا فيجعل منها موقفا دينيا او معاديا للدين يكمن في السعي الى تطبيق النموذج العلماني التقليدي على المجتمعات العربية الاسلامية من دون النظر الى الاختلاف الكبير في طبيعة ونمط توزيع السلطة الاجتماعية والسياسية والعقيدية بين المجتمعين.
ماذا يعني ذلك الحديث؟
باختصار غير مخل يمكن القول ان العلمانية هنا تضحى مذهب وقيمة قائمة بذاتها لا مدخل ومنطلق لمظلة تستجير في ظلها الديمقرطية من الديكتاتوريات وتحتمي قيم التسامح من منطلقات لابغض وتتسع فيها مساحات الحرية في مواجهة الاستبداد وهذا ما حدث مع بعض الانظمة العربية التي حاولت انتحال التجربة الاتاتوركية وكان لابد للانتحال من ان يقود الى الفشل سيما وان ما جرى لم يكن سوى استلاب روحي لتجارب قومية مغايرة في غالبها تسود القيم الثقافية الاوروبية والغربية بعامة وهنا تحتاج العلمانية بدورها الى من يخلصها من علمنتها بمعنى نزع الطابع الثقافي المحلي الاصل عنها واعادتها الى ما كنت عليه كقاعدة اجرائية وليس معقيدة دماغية لعقائد اخرى او بديلة عنها.
ومعنى ما تقدم انه لايمكن ان تقوم علمانية عربية من خلال محاولات التنصل للكثير من التراث وقيمة ومن الثقافة وثوابتها لكنها يمكن ان تشد ازرها من خلال تغيير الاطار الرمزي المرجعي الذي يتم على اساسه تنظيم القيم والاولويات القيمية وربطه بارادة المجتمع المدني وليس بقرار تعسفي يتغطى بالعصمة الدينية.
والمقطوع به انه حال الحديث عن ارادة المجتمع المدني المنفصل عن السلطات البطريركية سواء كانت مقدسات ميتافيزيقية او وضعية نضحى اقرب ما يكون لمفهوم quot; العلمانية الديمقراطية quot; القائمة على قاعدة من الوعي في الحق في الاختلاف دون اللجوء الى منظومة التسفيه والتخوين والعمالة التي راجت وتروج في ازمة التفسخ والانحطاط Decadence وعندما يرتدي نفر غير قليل من القائمين على البلاد والعباد قناع quot; دوريان جراي quot; كما اشار اليه اوسكار وايلد.
والثابت ان النتيجة الحتمية التي تقودنا اليها مجتمعات العلمانيات الديمقراطية هي نشوء وارتقاء انظمة تختلف معها ولك الحق في ان تكون مختلفا وان تدافع عن حقك في الاختلاف الامر الذي تنكره عليك الدولة الدينية او الاتوقراطية.
ومما لاشك ان تساؤلا لا يمكن تجاهله هل يمكن ان تقوم ديمقراطية في غياب العلمانية؟
حكما ان الديمقراطية هي صراع بين اطراف متباينة ورؤى مختلفة في اطار في الموضوعية وليس القبلية وفي احتراب فكري وليس عنف منهجي، صراع تحسمه صناديق الانتخابات بين اطراف متساوية وغياب العلمانية وسيادة الرؤى الدينية يلبس السياسي النسبي ثوب المقدس المطلق غير القابل للتشكيك او فلسفة الحلول الوسط ومعنى ذلك ان الديمقراطية غير ممكنة بدون العلمانية والتي هي في ابسط تعريفاتها التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق.
على ان الديمقراطية العلمانية من هذا المنطلق ليست معطى ناجزا ونهائيا بل هي عملية quot; صيرورة quot; تبدا من السنوات الاولى لتطبيع الاجيال فكريا ومن هنا تتجلى حقيقة آنية في العالم العربي قوامها انه ليس من نموذج او نسق ديمقراطي علماني معياري يصلح بصورة واحدة لكل المجتمعات بغض النظر عن اجوائها الثقافية واحوالها الاقتصادية.
والحاصل ان العلمانية في الدولة الحديثة الوطنية باتت تمثل رمزا للنزاهة السياسية وحيادية الدولة وترفعها فوق ولاءات الجماعات الاثنية او المذاهب الدينية وكذلك التيارات الحزبية وذلك لتبقى قبلة ولاء عام وحجر زاوية يتحول الى مؤسسة مستقلة لها كيانها الاعتباري مستقل بعيدا عن منطلقات من يقومون على تيسيرها ولها توجهها التوافقي الخاص ممثلا في الدستور والذي تتبلور فيه اهدافها وتبرز فيه ايضا الطرائق التي من خلالها يكون التنفيذ لبلوغ الغايات وهي منظومة نسقيه تقود بالضرورة الى ثبات الدولة واستقرارها ولا تؤدي الى زعزعتها او اهتزازها حال تغير الحكومات.
ويبقى قبل الانصراف علامة استفهام اي علمانية نريد في عالمنا العربي مع الاخذ في عين الاعتبار جذوره الدينية الضاربة في القدم؟
احسب ان ما اشار اليه المفكر الفرنسي الكبير ريجيس دوبريه في احدث كتبه quot; الانوار التي تعمي quot; يكفي للجواب وعنده اننا لا نريد عقلانية جافة مسطحة تستبعد الدين كليا بحجة انه ظلاميات ولا نريد اصولية متعصبة تكفر الاخرين وتدعو الى ذبحهم.
والحقيقة التي لامراء فيها ان الغالب الاعم في الغرب قد غرق في الالحاد المادي لدرجة القضاء على فكرة التعالي الروحاني او الاخروي من اساسها وحولوا الانسان الى مجرد كائن استهلاكي وفيزيزلوجي محض ونحن اغرقنا في الاصولية الدينية وقضينا على الحرية الفكرية المتضمنة في الاية القرانية quot;لا اكراه في الدينquot;.
هل نحن في حاجة الى علمانية ديمقراطية مستنيرة تجافي الجفاف وتنافي التعصب؟ اغلب الظن ان ذلك كذلك.
كاتب مصري