مفهوم الدولة ما زال غامضا وملتبسا في الوعي الاجتماعي العربي
كان تشكيل الدول العربية نتاجاً مشوهاً لنمط الهيمنة الكولونيالية، الذي كان استجابة للنظام والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي السائد آنذاك حيث تم تكوين جماعات تحالف تقليدي تكونت من شيوخ القبائل وكبار الضباط السابقين في الجيش العثماني والاشراف وتجار المدن والوجهاء والافندية، الذين شكلوا نخبة سياسية غير منسجمة في الواقع، حاولت تشكيل quot;دول او كيانات قطرية quot; واستعادة موقعها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وكذلك نفوذها واضعاف الانقسامات القبلية والاثنية والطائفية. ولذلك عانت الدول العربية وما تزال من ضعف quot;الدولةquot; بالمفهوم الحديث ومن الايدولوجيات السياسية المتصارعة الى جانب التخلف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي خلفته القرون المظلمة.
والواقع فالعرب لم يسبق ان جربوا تأسسيس دولة حديثة منذ سقوط بغداد على يد المغول واحتلال الدولة العثمانية للبلدان العربية، التي لم تكن لها سلطة مركزية قوية تتعدى حدود الحكومات المركزية. وخلال اكثر من ستة قرون لم يكن العرب يعرفون كيف يؤسسون دولة حديثة، كما ظهرت في أوربا في العصر الحديث تقوم على مؤسسات المجتمع المدني واحترام حقوق الانسان والتمتع بحق التعبير الحر عن الذات واحترام الاخر المختلف، وفي ذات الوقت، استماع الدولة الى الفرد ومحاولتها تحقيق مطاليبه. كما لم يتطور التفاعل بين الدولة وافراد المجتمع المدني في الغرب بين ليلة وضحاها، وانما احتاج ذلك الى اكثر من قرنين من الزمن تطورت خلالهما الثقافة والمعرفة والعلوم والتكنولوجيا وكذلك مؤسسات المجتمع المدني وحقوق الانسان.
والحقيقة، أن الوعي الديني والاجتماعي ـ السياسي لم يدفع العرب الى توحيد انفسهم في دولة وتشكيل وحدة سياسية تستقطب مشاعرهم وانتماءاتهم وولاءتهم وتوحدهم في هوية قومية واحدة، مما ادى الى نمو روح محلية وطائفية في المدن وعصبيات عشائرية في الريف، لكي يحافظ كل من الحاكم والمحكوم على اوضاعه وحماية نفسه. وهي تعكس حالة التخلف والركود الحضاري التي كانت تعيشها اغلب المجتمعات العربية وكذلك عدم وجود مجتمعات طبيعية ومتماسكة يمكن تشخيصها بكونها quot;مجتمعات متكاملة. حيث كان الافراد ينقسمون في فترة الحكم العثماني الاستبدادي الى رعايا وليس مواطنين والى افراد ينتسبون الى قبائل و طوائف ومناطق وينقسمون بدورهم الى بدو وريفيين وحضر. ولم يكن هناك دولة او دول مركزية بالمعنى الحديث للكلمة. كما لم يكن الدين او العروبة مقرران لتوحيدهم في هوية وطنية واحدة. وكقاعدة عامة، كان سكان المحلة في المدن يعيشون في عالم خاص بهم، فلم يكن عندهم وعي وفهم حقيقي لمفهوم الوطن والدولة والهوية. وعندما حاول سكان المدن توليد السلطة وتأسيس دولة حديثة، انكشف ضعفهم وبانت هشاشة مقوماتهم الحضرية وتسربت العصبيات الاثنية والقبلية والطائفية والجهوية الى قمة السلطة وبدأت المنازعات العشائرية والانقلابات العسكرية. وهو ما يفسر والى حد بعيد اشكالية quot; الدولةquot; وعدم نضجها وتخلفها وضعفها، بحيث بقيت quot;العصبية القبليةquot; كنقيض للدولة الحديثة واستمرت كبنية مؤسسية سلبية وملتبسة.(1) كما استمر دور العشيرة والعائلة والطائفة في الحياة السياسية والاقتصادية كضمانة لها في توفير الامن والحماية للفرد والجماعة بدل الدولة، التي لم تستكمل شروط قيامها.
ولهذا بقي مفهوم الدولة بمعناه الحديث من اكثر المفاهيم غموضا والتباسا في الوعي الجمعي العربي ويعود ذلك الى ضعف الدولة وعدم احترامها والهيبة منها وكذلك الى عوامل سوسيو- ثقافية ترتبط تاريخيا بالتكوينات الاجتماعية- السياسية وبخاصة مؤسسة القبيلة والنظام الابوي - البطريركي واعادة انتاجها في تشكيل الوعي بها، حيث ان التاريخ العربي- الاسلامي هو تاريخ صراع مستمر بين الدولة المركزية من جهة، والقبيلة والطائفة والجماعات المحلية وعصبياتها من جهة اخرى.
وعلى طول التاريخ العربي-الاسلامي وقفت على رأس هرم السلطة أسر حاكمة قامت على العصبية والقوة والغلبة، من الأمويين حتى العثمانيين . وقد برر الفقهاء هذه السلطة عندما قرروا ان الغلبة لصاحب الشوكة، أي الشرعية للقادر على القهر، ومنهم أبو الحسن الماوردي وأبو حامد الغزالي وغيرهم من الفقهاء. كما يعود ذلك ايضا الى ضمور الطبقة الوسطى، التي كان من الممكن ان تحمل على اكتافها مهمات قيام الدولة الوطنية الحديثة وكذلك استبداد الدولة وقمعها وقصر عمرها وقلة تجربتها واستقلالها الشكلي.
ويعود ذلك الى ان المجتمعات العربية هي من اكثر المجتمعات في العالم تأثرا بالقيم والتقاليد والعصبيات البدوية في محاسنها ومساوئها وتأثيرا في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.( 2 ) فالعرب لم يعرفوا مفهوما مؤسسيا ثابتا للدولة ولا دولة مركزية خراجية قوية، وانما عرفوا quot; الملك quot; بالمعنى الخلدوني للكلمة. فقد ذكر ابن خلدون في مقدمتهquot; ان من عوائد العرب الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسةquot;، أي عن بناء الدولة وادارتها، كتنظيم سياسي واجتماعي واقتصادي يرتفع على العلاقات العشائرية والعصبيات القبلية. (3)، ولم يعرفوا السلطة بمعنى الحكومة والخضوع لها كالسلطة الوراثية التقليدية، بالمفهوم الفيبري . وبمعنى آخر ليس كل مجتمع سياسي منظم يكون دولة، فثمة اشكال متعددة للسلطة التي ليس لها علاقة بمفهوم الدولة الحديثة.
ومن جهة أخرى فان quot;الأمة الاسلاميةquot; هي مركز الثقل في تشكيل الوعي الجمعي عند العرب والمسلمن وليس الدولة. وهو ما جعل الوعي السياسي يتردد بين الولاء للعصبية القبلية او المحلية او الطائفية وبين الولاء للعصبية الدينية التي تعوض عن الولاء القبلي والمحلي والطائفي، أي التماهي بها. وبهذا يصبح الولاء للعصبية هو البديل عن سلطة مركزية قوية قادرة على حمابة الفرد. وما يوضح ذلك هو ان الدولة في المجتمع العربي والاسلامي لم تكن محور العلاقات الاجتماعية، وانما هي مجرد وسيط خارجي لتحقيق المصالح. وفي حالة تحطيم هذا الوسيط تفقد الجماعة واسطة عقدها ومركز توازنها كجماعة سياسية. ( 4)
والى جانب ضعف الدولة والتخلف والركود كان هناك هوة واسعة تفصل بين الريف والمدينة وبينهما وبين البادية ولا تربط بينهما سوى المصالح الاقتصادية. وفي الوقت الذي خضع فيه الحضر بصورة عامة الى الشريعة الاسلامية، كان الريفيون يخضعون عموماً الى القيم والاعراف والعصبيات القبلية المصبوغة بصبغة دينية، في حين خضع سكان المدن الى تأثير الثقافة التركية والفارسية والأوربية.
وبالرغم من ان الاكثرية في الدول العربية هم مسلمون الا ان الاسلام لم يكن عامل قوة ودمج وتوحيد، وخاصة بين الشيعة والسنة والعرب والاكراد وغيرهم، مع انعدام أي صراع طائفي حاد بينهم،لأن raquo;الطائفيةlaquo; تخضع لقوانين خاصة بها ذات بعد سياسي وليس دينياً او عنصرياً.
ومن الممكن القول بأن سكان المدن كانوا اكثر وعياً باسلامهم من سكان الريف، بالرغم من تأثير المرجعيات الدينية الذي كان تأثيره طقوسياً اكثر‮ ‬منه‮ ‬التزاماً‮ ‬بالشعائر‮ ‬الاسلامية‮ . ‬ومن‮ ‬جهة‮ ‬اخرى‮ ‬لم‮ ‬يكن‮ ‬الوعي‮ ‬القومي‮ ‬ ‬ناضجاَ‮ ‬ ‬ولم‮ ‬تشغل ‮ raquo;‬القومية‮laquo; ‬ مركز‮ ‬استقطاب‮ ‬لمشاعرهم‮ ‬العربية‮ ولا الافكار الليبرالية او الاشتراكية.‬
وبالرغم من ان سؤال الدولة شكل محور الاهتمام عند مفكري عصر النهضة في بداية القرن التاسع عشر بعد الانبهار بالنوذج الغربي للدولة الحديثة، كما ظهر ذلك عند رفاعة الطهطاوي في كتابه quot;تلخيص الابريز في وصف باريزquot; وتطور تصور عقلاني جديد لمفهوم الدولة الحديثة يميزها عن التي تقوم على اساس العرق والدين واللغة، غير ان ما جاء بعدها لم يكن سوى استمرار لتيار الاصلاحية الاسلامية التي تمثل بمقولة quot;الاسلام دين ودولةquot;، التي تتحدث عن الحكم والسياسة وليس عن المعنى النوعي للدولة الحديثة، وبمعنى آخر انها لا تتضمن quot;نظرية للدولةquot; لا تخرج عن مفهوم الحكم السلطاني المطلق، وهو سبب فشلها.(5)
المصادر:
1 - محمد جابر الانصاري، تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1994،ص82-83
2 - علي الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، بغداد 1965، ص 15-16
3 - ابن خلدون، المقدمة، المطبعة الحجرية، القاهرة بدون تاريخ
4 - برهان غليون، نظام الطائفية من الدولة الى القبيلة، بيروت 1990، ص 136
5 - مهند مبيضين، هوامش عربية على متن الدولة، جريدة الحياة،20.7.2008