يعتبر عهد الملك فيصل الاول (1921 - 1933) مرحلة هامة في بناء العراق الحديث وتكوينه السياسي، على الرغم من تحالفه مع الانكليز والعقبات التي اعترضته منهم من جهة، ومن الشعب العراقي غير الموحد في هوية وطنية واحدة وعدم نضوج وعيه الوطني والسياسي. حيث حاول الملك فيصل الموازنة بين ما يفرضه عليه ارتباطه مع الانكليز وما يفرضه عليه واجبه ومسؤولياته في تنمية آليات الوعي السياسي والاجتماعي وخاصة لدى النخبة المثقفة، وكذلك تشجيع قيام الاحزاب والجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني، التي فتحت عيون العراقيين على احدث التيارات السياسية والثقافية في العالم.
ومع ذلك فان التعددية السياسية التي قامت في عهده لم تكن بطريقة ديمقراطية ولم تجر بصورة طبيعية، حيث شابها عدم الاستقرار السياسي. وكان للملك فيصل شخصية كارزمية قوية، واستطاع الهيمنة على الوضع السياسي الى حد بعيد. وقبل وفاته تحقق استقلال العراق ودخل عضوا في عصبة الامم عام 1932.
محاولة لبناء عراق جديد
من الممكن القول بأن جيل ما بعد الحرب العالمية الاولى كان يمثل بوادر الاستقرار والتحديث والتقدم الاجتماعي والحضاري في العراق، بالرغم من انغماس ذلك الجيل في حركات سياسية ومشاكل آيديولوجية وصراعات مصلحية على السلطة المتحالفة مع الانكليز. وبالرغم من تمرده وانتفاضاته، فقد انتج ملامح طبقة وسطى نامية اخذت على عاتقها بناء مؤسسات الدولة والمجتمع المدني وقام بنشاطات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية رسمت ملامح مجتمع يتطور ولو ببطىء ويسير نحو النمو والتحديث، مع طموحات قومية من جهة، واشتراكية من جهة ثانية، والدخول في العالم الرأسمالي من جهة ثالثة.
لقد فتح الاتصال الحضاري والتطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي بابا واسعا للتحديث في العراق وكون مرحلة تاريخية هامة في تاريخ العراق الحديث، انجبت عددا كبيرا من العلماء والمفكرين والفنانيين والتكنوقراط والتجار والصناعيين الذين حملوا على اكتافهم مهام كبيرة لبناء عراق جديد.
غير ان وفاة الملك فيصل الاول المفاجئة غيرت مجرى الامور بالرغم من ان السلطة بقيت بيد النخبة السياسية المخضرمة التي تكونت من العسكريين القدامى والمثقفين العثمانيين، وعلى رأسهم نوري السعيد، الذين لم يستطيعوا انتهاج افكاره وسياستة وتحقيق مشروعه. فهو عمل على بناء دولة عراقية حديثة مع حياة برلمانية وتأسيس احزاب وجمعيات تنفتح على الحداثة الغربية، ورغم التخلف والصعوبات والمشاكل مع الانكليز وشيوع الروح القبلية والعنصرية والطائفية وسيطرة ملاك الاراضي الكبار من شيوخ العشائر ومتنفذي المدن والاغوات، فان عهد الملك فيصل، مع ذلك، مثل بدايات مجتمع ليبرالي جديد في تاريخ العراق الحديث. رغم ما شابه من تناقضات وصعوبات وتعسف وعدم تمكنه من تحقيق ما وعد به من فصل بين السلطات وتحقيق المساواة النسبية بين فئات الشعب العراقي. ولو تأخرت وفاة الملك فيصل الى ما بعد الحرب العالمية الثانية، فربما كان بالامكان تجنب كثير من الامور السلبية التي مر بها العراق فيما بعد.
ومنذ منتصف الاربعينات حدثت تغيرات وتحولات هامة على صعيد البنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وبخاصة في بغداد، وظهرت بوضوح منذ عام 1952 وذلك بسبب الازدياد الملحوظ في واردات النفط بعد تطبيق مبدأ مناصفة الارباح مع شركات النفط التي كانت تحتكر النفط، بعد حركة مصدق في ايران من جهة، والانهيار في الاقتصاد الزراعي من جهة ثانية، وتزايد حدة الوعي الاجتماعي والسياسي والثقافي من جهة ثالثة، الذي بات ينذر بحدوث مخاطر غير مرتقبة، مما دفع بالسلطة، بدفع من الانكليز والاميركان، الى اعطاء هامش ولو ضئيل من الحرية والحركة وتطبيق بعض الاصلاحات، وبخاصة بعد ان اصبح الدكتور فاضل الجمالي، الذي يحمل افكارا ليبرالية وعقلانية متحررة، رئيسا للوزراء عام 1953 واطلاقه لبعض الحريات وفي مقدمتها عودة الاحزاب الى مزاولة نشاطاتها ومنها الحزب الوطني الديمقراطي. كما صدرت جرائد ومجلات ثقافية رصينة وفي مستوى جيد واجيزت جمعيات ثقافية وفنية عديدة. كما تنامت اتجاهات سياسية وآيديولوجيات متنافسة ومتصارعة تمثلت باتجاهات وايديولوجيات مختلفة. غير ان اغلب الاحزاب الوطنية توحدت في جبهة وطنية عريضة قبل ثورة 14 تموز، وذلك نتيجة الممارسات الاستبدادية العديدة التي سببتها سياسات نوري سعيد والوصي عبد الآله المدعومة من قبل الانكليز، والاخطاء الجسيمة التي قامت بها، والحركات والانتفاضات التي قامت ضدها، من حركة الضباط الاحرار عام 1941، الى الانتفاضات الوطنية عام 1948و 1952 وضرب الحركات الكردية 1946 والدخول في حلف بغداد وغيرها.
لقد تميز الاقتصاد العراقي حتى ذلك الحين بنمط انتاج غير مكتمل، ففي الريف يسود نمط شبه اقطاعي مع نظام عشائري ـ أبوي. وفي المدن رأسمالية هامشية غير مكتملة جاءت نتيجة ربط الاقتصاد العراقي بالاقتصاد الرأسمالي العالمي ـ الذي لم ينشأ عن تطور داخلي طبيعي. فالعراق لم يشهد نظاما اقطاعيا راسخا وانما اشكالا من الملكيات الكبيرة والصغيرة التي تقوم على ضفاف الانهار. كما لم تنمو في العراق طبقة برجوازية كبيرة كما هي في اوربا، وانما طبقة متوسطة دنيا تستمد ثروتها من التجارة والصناعات الخفيفة واجهزة الدولة وريع النفط، اذ لا وجود لصناعات حديثة او لزراعة متقدمة، كما في الدول الصناعية، فما زالت وسائل الانتاج تقليدية بالرغم من دخول بعض المكننة الزراعية الى العراق. وفي الحقيقة يمكننا القول، بان العراق خضع لاقتصاد هجيني اختلطت فيه ملكية الدولة بنشاط اقتصادي غير منتج، اي للاستهلاك الذاتي، محوره التجارة ويغلب عليه قطاع الخدمات.
وعلى صعيد البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية حدثت تغيرات وتحولات هامة وبخاصة في بغداد، بدأت بعد الحرب العالمية الثانية واخذت ملامحها مع نمو الطبقة الوسطى وبدايات تقسيم العمل الاجتماعي الذي ساد آنذاك وفق تطور فئات وطبقات المجتمع العراقي وعلى اساس التقسيم الاقتصادي والاداري لمدينة بغداد، التي بقيت مقسمة الى جانبي الكرخ والرصافة. وكان سوق الشورجة يشكل عصب الحياة التجارية ويرتبط بمحلةquot; صبابيغ الآلquot; والمحلات المجاورة لها حيث تسكن العوائل البغدادية العريقة التي كانت تسيطر على جزء كبير من التجارة والحياة الفكرية والسياسية، وبخاصة عائلة أبو التمن وبيوت كبة وفتاح باشا وعلاوي والخضيري والازري ومكية والباججي وقنبر أغا والعطار وغيرها، في حين شكلت القشلة المركز الاداري للمدينة حيث تتفرع منها شوارع واسواق فرعية تكون الشرايين الرئيسية للعاصمة، التي اخذت تتوسع وتتأثر بالتغيرات الكمية والنوعية التي حدثت قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها. كما ان انطلاقة النفط في العراق ودخول الشركات في اتفاقيات المناصفة وما نتج عن ذلك من ارتفاع هائل في ايرادات النفط وما رافق ذلك من اتساع حجم الدولة ووظائفها وكذلك مؤسسات التربية والتعليم وتضخم الجهاز الاداري وتوسع المؤسسة العسكرية ونشوء الحاجة الى ايدي عاملة الذي مهد للنزوح الريفي الى المدن للهرب من الجهل والفقر والمرض وظلم مالكي الارض الكبار وعلاقات الانتاج شبه الاقطاعية المتخلفة في الريف وكذلك لسد الحاجات المتزايدة للمدن الى الايدي العاملة باشكالها المختلفة، الذي سبب فيما بعد ترييفا للمدن وبطالة وبطالة مقنعة.
وبالرغم من التنوع والتعدد والتعايش والتسامح بين الاديان والطوائف والاقليات، كان لكل فئة وطائفة منهم منطقته وحيه ومحلته، حيث كان هناك اختلاط وتداخل وتعايش بين سكان هذة الاحياء وبين المناطق والاحياء الاخرى، فلم يحدث أي صراع او نزاع اثني او ديني او طائفي الا نادرا.
ومثلما تتوسع وتمتد بغداد تتوسع البصرة والموصل وغيرها من المدن الكبيرة وتزداد وتيرة النزوح الريفي. وبدخول المكننة الزراعية الى القرى والارياف تبدأ أزمة البنى الزراعية بالاستفحال من دون ان يكون هناك انتاج فائض ولا اكتفاء ذاتي في الانتاج الزراعي.
الدولة الريعية
وبازدياد واردات النفط تنشأ تدريجيا دولة تعتمد على الريع الاستراتيجي من دون اللجوء الى الضرائب، التي هي الركيزة الاساسية التي يقوم عليها اقتصاد الدولة والمجتمع. وبتأثير الدولة الريعية تتطور بالتدريج الطبقة الوسطى المنتجة وغير المنتجة وما ينتج عنها من محاولات لاقامة مؤسسات المجتمع المدني. غير ان من مساوئ الدولة الريعية، هي انها توفر امكانية ربط المواطن بالدولة، وذلك لأنها، أي الدولة الريعية، ليست مضطرة الى الحصول على العملة الصعبة من افراد المجتمع المنتجين، بسبب سيطرتها على المنتجات الصناعية والزراعية وكذلك على واردات النفط، وهو ما ينتج تقسيما جديدا آخر للعمل هو اكثر تعقيدا من التقسيمات التي مر ذكرها اعلاه، حيث يعطل الاقتصاد الريعي العملية التمدينية وينزع الى منح السلطة استقلالية عن المجتمع من جهة، ومنح مكاسب وامتيازات لم تنجم عن العمل والانتاج والاستحقاق والجدارة، وانما عن تفضيل سياسي وترسيخ مواقع فئة او فئات معينة وتوزيعها، مما يساعد على صنع ولاءات تشجع على تعميم الفساد.
ومع كل هذه التحولات فقد مثل جيل البناء والى حد بعيد، الثوابت العامة للشخصية العراقية، الذي عمل جاهدا الى تحديث المجتمع وتقدمه وازدهاره. وهناك مؤشرات عديدة على ذلك، في مقدمتها الرغبة والتهيؤ للدخول في علاقات اجتماعية واقتصادية جديدة وتعلم طرق مستحدثة لحل المشاكل اليومية كالايمان بالعلم والتقدم التكنولوجي واستخدام التخطيط العلمي في حل المشاكل التي تتعلق بالتنمية والتحديث واتباع طرق عقلانية عند مواجهة المصاعب والتحديات بدل الاستسلام للقضاء والقدر. وقد ظهر ذلك في الاهتمام بالمعرفة والثقافة عن طريق انتشار المدارس والمعاهد والجامعات وتزايد الاهتمام باهمية المكتبات والجمعيات الاجتماعية والثقافية والفنية وكذلك بوسائل الاتصال المختلفة والمشاركة في النشاطات الاجتماعية والثقافية والسياسية.
غير ان جيل البناء واجه مصاعب كبيرة. فالى جانب المشاكل الاقتصادية والسياسية العديدة سببت الهجرة الواسعة من الريف الى المدن ترييف المدن وتشويه العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المدينية، التي ستترتب عليها نتائج اجتماعية واقتصادية وسياسية ليست بسيطة ومرتقبة.
فترة الخمسينات الذهبية
والحقيقة تعتبر فترة الخمسينات من القرن الماضي من اخصب العقود في تاريخ العراق الحديث وأغناها من حيث التقدم الفكري والاجتماعي والاقتصادي والانجازات الثقافية والفنية والحضارية والتسامح الديني والاجتماعي والثقافي والسياسي من جهة، وتوسع المؤسسة العسكرية وبداية صعودها الى السلطة من جهة اخرى. وبالرغم من قصر فترة الخمسينيات والعواصف السياسية التي مرت بها، فقد شهد العراق آنذاك فترة من الممكن ان نطلق عليها quot;فترة ذهبيةquot; حفلت بانجازات ابداعية عديدة ومختلفة في الفكر والعلم والأدب والموسيقى والشعر والفنون التشكيلية وتميزت بالثراء والكثافة والابداع وكان تأثيرها عاما وشاملا على مجمل عملية التحديث في العراق.
غير ان أهم ما يميز تلك الفترة هو تطلع رواد الطبقة الوسطى النامية وحماستهم نحو التطوير والتغيير والحداثة، يدفعهم شعور داخلي للخلق والابداع وتجاوز الحدود، رغم ان الاكثرية منهم كانت تعيش في ظروف اقتصادية ليست سهلة.
واذا اخذنا بنظر الاعتبار تغير بعض القيم والعادات والممارسات التي باتت تقليدية وغير مستساغة، بل وبالية ولا تنسجم مع المتغيرات التي استجدت في البلاد، التي ظهر حضورها القوي في العناصر المادية والمعنوية للحداثة، التي ينبغي علينا فهمها ضمن سياقها الزمني وما كانت تحمله من دلالات وطموحات ورؤى وانجازات، فقد ظهرت في العراق حركات ومذاهب وتيارات ريادية في مجال الأدب والثقافة والفنون مع حرية فردية نسبية ورؤى جماعية ظهرت على المستوى الثقافي في مساهمات المثقفين العراقيون، كل حسب اختصاصه وثقافته واهتماماته، منطلقين من اثارة اسئلة واشكاليات تؤسس لبناء مجتمع مدني حديث يهدف الى ارساء حداثة تدعو الى التعددية وتعميق روح المواطنة وبث روح التسامح والمساواة بين البشر، منطلقة من ان العراق ينفرد من بين الدول الاخرى بكونة مهد اقدم الحضارات الانسانية التي تعود في اصولها الى سومر واكد وبابل واشور وكذلك الى التراث العربي-الاسلامي العقلاني الذي ازدهر في العصر الوسيط على ايدي علماء الكلام والفلاسفة العقلانيين، اضافة الى انه يمتلك ثروة نفطية هائلة ومياه وفيرة واراضي زراعية متطورة، مع ثروة سكانية تمتلك مستوى عال من التعليم والذكاء والقدرات العملية. ان هذه الامكانيات والمقدرات كان من المفروض ان تساعد على بناء نظام تعددي ديمقراطي في مجتمع متنوع ومتعدد الاثنيات والاديان والطوائف والأقليات مثل العراق.