quot;لقد كان هدفنا هو اقامة مجتمع خال من اي شكل من اشكال التمييز او اضطهاد غير اليهود بالطريقة التي عانى منها اليهود على مدى الفيتين من السنين، لكن هذه الرؤية الطوباوية اصابها الخرس في اسرائيل، فقد اخرس القلق على الوجود الذاتي والرفاهية الذاتية النداء المعنوي واغلق افاق الرؤية والفكر الخلاقquot;.
بهذه الكلمات تحدث ابراهام بورج رئيس الكنيست الاسرائيلي الاسبق الايام القليلة الماضية ، وقد جاء حديثه تحت عنوان quot; إسرائيل في قبضة المحرقةquot; تلك الحقيقة التي باتت متحكمة في ناصية الحياة في اسرائيل لدرجة ان دراسة اجريت قبل سنوات قليلة شملت المعلمين في مدارس تل ابيب اظهرت ان اكثر من 90 بالمئة ممن شملتهم يعتبرونها التجربة الاهم في التاريخ اليهودي.
إسرائيل محكومة إذن بروح من الخوف ، الامر الذي يعوقها عن النظر الى اي بدائل اخرى من حولها ويجعل هاجس الالم والقلق هو مالك ناصية القرار فيها كما يتضح من قراءة عميقة لفكر بورج...من هو بورج بعيدا عن التعريف الوظيفي السابق له؟ وكيف له ان يقترب من هذا التابو المقدس الذي من اجله انشئت قوانين خاصة في اوربا وامريكا لادانة من ينكرها؟
كان الصحافي والسفير الفرنسي السابق quot; ايريك رولو quot; هو أول من أطلق على بورج وصف quot; الطفل المزعج quot; في المؤسسة الإسرائيلية عبر مجلة quot; اللوموند ديبلوماتيك quot; الفرنسية الشهيرة ، ذاك الذي لا ينفك يثير الصدمة والإعجاب وبورج هو الرجل القادر على أن يثير الدهشة هنا وهناك في كل وقت ... كيف هذا؟
من واقع الدفاتر الحكومية الإسرائيلية فان بورج وخلال السنوات التي أمضاها كقيادي في حزب العمال أو في زعامة الحركة الصهيونية وكذلك إبان رئاسته للبرلمان كان دائما صاحب مواقف وشعارات من عينة منافية ومجافية للتوجه الإسرائيلي العام .
وبورج هو ابن حاخام quot; يوسف بورج quot; يحظى باحترام الجميع ، بعد أن كان رئيسا للحزب القومي الديني وممثله في البرلمان وكافة الحكومات تقريبا ، وهو الطفل اليهودي الذي تلقى دروسه في المدارس الدينية quot; يشيفا quot; المتخصصة بدراسة النصوص الحاخامية ومعروف عنه انه يستفيض بالاستشهاد بالتوراة والتلمود ليبرهن كم أن بعض النصوص المقدسة قد أسى فهمها وتفسيرها وكم تم تشويهها ما يعني اننا امام يهودي لا غش فيه.
هل من معنى لما تقدم؟ بلا شك يتضح ان المازق الذي تعيشه اسرائيل هو اوسع واعرض من صورايخ القسام في غزة او تهديدات احمدي نجاد في طهران والدليل هو انه اصبح من المستحيل ادارة حوار بمنطقية وصبر وسيطرة على الذات يقول بورج : لنأخذ ايران كمثال فبقدر تعلق الامر ببرنامج ايران النووي كما هي الحال مع اية قضية امنية ذات تداعيات مصيرية نحن لا نملك اية افكار على الاطلاق وكل ما لدينا هو الغرائز والدوافع الناجمة عن تجربة الالم فايكم قد سمع بمواقف بديلة من القضية الايرانية او بحجج استراتيجية تكمن تحت العواطف الجياشة والمخاوف القديمة وخطاب العنف؟.
والمثير في اراء بورج الاخيرة هي انها تحمل ولا شك شبهة مقاربة ولو مستترة بين المحرقة الاسرائيلية التي جرت وبين المحرقة الفلسطينية المستمرة كل يوم ومنذ نحو ستة عقود وتستعر اليوم في غزة نارا ودخانا وكراهية موغلة في الصدور وبات الحلم اليوتوبي لدولة اسرائيل سراب من جراء تحول اسرائيل الى مملكة بلا رؤية وبلا افق استشرافي .
يشير بورج في كتابه المعنون quot; الانتصار على هتلر quot; الى ان إسرائيل اليوم لا تختلف عن ألمانيا عشية وصول هتلر إلى الحكم والنتيجة الحتمية لتلك الخلاصة هي أن السوس قد بدا ينخر بالفعل في الجسد الإسرائيلي غير المتناغم مع بعضه البعض، والمجتمع الإسرائيلي في نظر بورج كيان عنصري قائم على الخوف المستدام ولهذا نراه ينصح كل إسرائيلي بان يتزود جواز سفر أجنبيا ليكون مستعدا لمغادرة إسرائيل التي يكاد ينعاها مشيرا إلى حقيقة أن النخب الإسرائيلية تفضل لأبنائها الهجرة إلى الخارج ...
عبر صحيفة هارتس الإسرائيلية وفي مقابلة مطولة كان بورج يقر ويعترف بان تكريس فكرة إسرائيل كدولة يهودية هو أمر يعد طريقا مدمرا يرسم معالم نهاية إسرائيل داعيا إلى إلغاء قانون العودة الذي يتيح لليهود فقط الهجرة إلى إسرائيل وهي التي تمنع أصحاب البلد الأصلي من حق العودة لاسيما المهجرين عامي 1948 ، 1967 معتبرا نفسه إنسانا مواطنا في هذا العالم بالدرجة الأولى ثم يهوديا ثم إسرائيليا مضيفا أن الإسرائيلي هو نصف يهودي ومن الجنسية الإسرائيلية يوجد فقط جسم بلا روح quot; إننا موتى لم يعلنوا كذلك لكننا موتى quot; ..
هل من محصلة تقود إليها كلمات بورج فيما يتعلق بمستقبل دولة إسرائيل وهي تتخطى عتبة الستين عاما؟
الجواب عنده quot; أنني أرى مجتمعي يذوي إمام ناظري .. أردت أن يدرك التيار المركزي في إسرائيل انه عندما ندع الجيش ينتصر بحسب الشعار الإسرائيلي الدارج فانه غير قادر على ذلك غير قادر على أن يعي أن القوة ليست هي الحل، أن الحديث عن محو غزة على سبيل المثال يدلل على أننا لم نستوعب الدرس quot;.
وفيما يخص أحوال المجتمع الإسرائيلي في الداخل فان رؤية بورج تشير وبجلاء إلى حالة السوداوية التي تجتاحه فيكتب quot; أننا معوقون نفسيا ، أن إسرائيل تعاني من صدمة نفسية مستديمة صدمة النازية أفقدتنا توازننا أننا نعيش بشعور أن كل العالم ينفر منا، التشدد يسيطر على هويتنا أننا مجتمع يعيش على سيفه وهذا الشعور ورثناه من ألمانيا وكأن ما سلبوه منا خلال 12 عاما يحتم ان يكون سيفنا كبيرا جدا ... أليس جدار الفصل الذي نقيمه في الأراضي الفلسطينية خير دليل على انفصام الشخصية الذي نعانيه؟quot;.
والشاهد أن كارثة اتهام بورج لإسرائيل بquot; النازية quot; تتفاقم عندما يشبهها بالدولة الفاشية إذ يضيف : أن الفاشية هنا الآن ، إسرائيل هي دولة بلطجية ومستقوية وقاسية وإمبريالية وسطحية فاقدة لاصالة الروح ومنطوية على نفسها .. أن الدعوات المتتالية إلى قتل الفلسطينيين وهدم منازلهم وترحيلهم والقتل وشرعنة سياسيات الترحيل من خلال مشاركة أصحاب هذه السياسات في الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لهو دليل شاف واف على انتشار الفاشية في المجتمع الإسرائيلي، ليس هذا فحسب بل quot; أننا تجاوزنا عددا هائلا من الخطوط الحمر في السنوات الأخيرة ولا استبعد أن يشرع الكنيست في السنوات المقبلة قوانين ضد العرب تضاهي في عنصريتها قوانين نورمبيرج. quot;
يامل بورج ان يرى الشعب اليهودي يصر على عدم تكرار ما حدث من محرقة ليس لليهود فقط بل لاي شخص يتعذب في عالم اليوم، كما يتطلع لاقامة دولة ثنائية القومية في إسرائيل يعيش فيها العرب واليهود معا quot; لكن من الصعب تحقيق هذا الامل على ضوء سفك الدماء المستمر الذي نقرأ عنه في صحفناquot; يقر الرجل في نهاية المطاف، وبرهانه ما يجري وراء اسوار غزة المحاصرة في محرقة لا تقل بشاعة عما جرى في اوشفيتز ذات يومquot; .
كاتب مصري
[email protected]