مع انتشار الفضائيات هذا الانتشار، الذي هو شبيه بانتشار الفطر والطحالب، تحوّل جزء كبير من المثقفين إلى إعلاميين، يتسابقون على شاشات الفضائيات، باعتبار أن هذا العصر هو عصر الصورة أكثر منه عصر الكلمة. ولا شك أن السينما العالمية قد ساهمت إلى جانب التلفزيون والفضائيات مساهمة كبيرة في إعطاء الدور الرئيسي للمعرفة إلى الصورة التي أصبحت تنافس الكتاب في نقل المعرفة للمتلقي، وخاصة المعرفة اليومية من أخبار، ولقاءات، وندوات، ومؤتمرات.

كتّاب ينبتون كالفطر
ووجد كثير من المثقفين العرب الذين لم نكن نسمع عنهم، ولم يكونوا قد قاموا بأي نتاج ثقافي، وربما لم يكتبوا في حياتهم (عرض حال) واحد، فرصتهم في الفضائيات، وعلى شاشة الانترنت، فاعتلوها، وراحوا يقلبون الحق إلى باطل ساعةً، والباطل إلى حق ساعة أخرى، حسب ما يريد ويهدف المنبر الذي يتحدثون منه. وبلغ عدد الكتاب في بعض المواقع الاليكترونية المئات وليس العشرات.
كتّاب خريجو دور الحضانة
وصرنا نقرأ لـ quot;كتّابquot; لا يجيدون لا النحو، ولا الصرف، ولا الإملاء، ولا كتابة العبارة الصحيحة. وأصبح عدد الكتاب العرب أكثر ndash; ربما ndash; من عدد القراء. فلا أسهل من الكلام المكتوب والمنطوق في العالم العربي، الذي يتم فيه الكلام بلا ضابط ولا رابط، وبلا مسئولية أيضاً. والمواقع والصحف الورقية والاليكترونية معذورة، فهي تريد المزيد من quot;الكتاتيبquot; لكي تملأ صفحاتها بغث الكلام وسقطه. ويا ليت هؤلاء استغلوا هذا التقدم التكنولوجي الإنساني، لكي يوصلوا رسالة التنوير والحداثة والديمقراطية إلى المتلقي العربي. لكنهم لم يفعلوا.

صواريخ الأصولية وسلا حف الليبرالية
وكانت الأصولية والمدُّ الأصولي أذكى من هؤلاء، فاستغلت التقدم التكنولوجي الهائل، وراحت تنشئ المواقع الاليكترونية على الانترنت، وتستفيد من الدعوات الموجهة لها للتحدث والحوار على الفضائيات. وكان أن انتشر الفكر الأصولي الديني انتشاراً كبيراً، وازداد رواده ومريدوه، وانطلق كالصارخ، في حين بقي فكر الحداثة والتنوير يزحف ببطء شديد زحف السلحفاة. ومقارنة بسيطة وسريعة بين نسبة انتشار الفكر الأصولي الديني في الستينات والسبعينات والثمانينات، مقارنة بما أصبح عليه هذا الفكر من انتشار في التسعينات، وفي السنوات السبع الماضية من القرن العشرين، تُرينا إلى أيحدٍ انتشر الفكر الأصولي الديني، بعد أن ازداد مستخدمو الانترنت في العالم العربي، في الفترة الأخيرة زيادة كبيرة.
حروب المثقفين المجانية
الشاهد، أن الاتهامات المجانية من خلال هذه الانطلاقة، قد أصابت أصحاب الفكر الأصولي وأصحاب الفكر الطليعي الحداثي، أو ما أطلق عليه الإعلام العربي quot;الليبراليون الجددquot; باعتبار أن هؤلاء الليبراليين، قد برزوا بشكل واضح بعد بدء عملية quot;حرية العراقquot; 2003.
واتُهم أصحاب الفكر الأصولي بأنهم رجعيون وسلفيون ويحتكمون إلى الموتى في أحكامهم، وأنهم عبيد الماضي، ولا مستقبل لهم، وبأنهم يحاربون الحداثة، وبأنهم النار التي تشتعل في حطب الإرهاب، وبأنهم يريدون إعادة المجتمع العربي إلى القرون الوسطى.. الخ.
في حين اتُهم الليبراليون بأنهم عبيد الدولار الأخضر والبيت الأبيض (أطلقوا عليه البيت الأسود) وأنهم من جاء على دبابات الاحتلال، وأنهم كفرة ملاحدة، ينادون بالعلمانية (العلمانية تعني لهم إنكار الدين وقتل الله، في حين أن العلمانية العربية لا تعني أكثر من فصل الدين عن الدولة، وعدم تدخل رجال الدين بالسياسة)، وأنهم ينادون بعودة الاستعمار، وبأنهم من السفهاء الزنادقة، وبأنهم مرتزقة .. الخ.
وهكذا امتلأت معظم مساحة الصفحة العربية بمثل هذا السباب اليومي من جانب الطرفين. وهو سباب شهدنا شبيهاً له في فترة الثلاثينات من القرن الماضي بين الأصولية الدينية وبين الليبرالية (فريق طه حسين وفريق مصطفى صادق الرافعي).
فتح بوابة جهنم
وكان الفضل للصحف والمواقع الاليكترونية في انتشار هذه الاتهامات، التي فتحت أبواب ردود القراء، وكأنها فتحت باب جهنم. فقرأنا في هذه الردود زبالة العرب، وفُحش الكلام، وسوء التعبير، وقلة الأدب، والابتعاد عن الموضوع، والخروج على النص، والردح البذيء، والمدح القميء. وظهرت تقيحات القراء المقززة. وكانت حجة بعض الصحف في فتح بوابة جهنم هذه، تدريب القارئ على النقد، والتعبير الديمقراطي عن رأيه. وعلى الكاتب أن يتحمل كل هذه الرزايا، ما دام قد أقحم نفسه في هذا المضمار. وسرَّ بعض الكتَّاب بعدد ردود القراء، واعتبروا ذلك شهادة على البلاغة والنجاعة وحُسن البضاعة. ونسوا أن أكثر الكتّاب رصيداً من ردود القراء، لا يزيد على عدد ردود القراء لصورة وخبر ممثلة شبه عارية، أو لخبر عن طلاق فنانة، أو زواج فنان، نتيجة لعصر الانحطاط الذي نحن فيه.
أمريكا quot;متعهد جمع القمامة العربيةquot;
ولا شك أن انهماك أمريكا وتورطها في مستنقعات الشرق الأوسط، وتحولها من دولة تريد إصلاح وتغيير الشرق الأوسط، إلى quot;جامع قمامةquot; في الشرق الأوسط، قد فتح لكثير من المثقفين أبواب ونوافذ الإطلال على المتلقي العربي يومياً، وشحنه بالكراهية الشديدة للغرب عامة، ولأمريكا خاصة.
أمريكا هي الكيكا والميكا
فمنذ عام 2003، وبعد القيام بعملية quot;حرية العراقquot;، رمى العرب في وجه أمريكا كل زبالتهم اليومية.
فأصبحت أمريكا هي العدو الأول للإسلام والمسلمين، بعد أن كان عدوها الأول الشيوعية.
وأصبحت أمريكا هي المسئولة عن الإرهاب وتضخمه، إلى أن وصل إلى ما وصل إليه اليوم.
وأصبحت أمريكا هي المسئولة عن الفساد في العالم العربي، باعتبارها تدعم الحكام العرب الفاسدين، حرصاً على مصالحها معهم.
وأصبحت أمريكا هي المسئولة عن زيادة السكان في العالم العربي، وخاصة في مصر وفلسطين، حيث يضع المواطن العربي كل قهره وفقره، وكل غِلّه ليلاً في فرج زوجته، التي أصبحت تنجب التوائم المتعددة في كل ولادة.
وأصبحت أمريكا مسئولة عن زيادة أسعار البترول، وزيادة أسعار المواد الغذائية بالتالي، ومواد البناء، وتذاكر السفر، لأنها المستهلك الأعظم للبترول.
وأصبحت أمريكا هي المسئولة عن طغيان الديكتاتوريات العربية، لأنها تركت الديكتاتوريين في العالم العربي يفعلوا بشعوبهم ما يريدوا.
وأصبحت أمريكا مسئولة عن انتشار المخدرات بشكل كبير في المجتمعات الخليجية وغير الخليجية، نتيجة للقهر الذي تمارسه أمريكا على الشعوب العربية.
وأمريكا أصبحت مسئولة عن قتل عشرات الآلاف من العراقيين وآلاف من الأفغانيين، ومئات من الفلسطينيين. ولا علاقة للمنظمات الإرهابية الدينية بكل هذا.
نحن الضحايا دائماً
والسؤال المحيّر الآن هو: وما دامت أمريكا مسئولة عن كل هذه المصائب والأمراض، فأين إذن مسؤولية الشعب العربي، وجهله، وتخلفه، وجبنه (99 بالمائة من ردود القراء تأتي من أسماء مجهولة، تختفي وراء أسماء وهمية)؟
وأين مسؤولية الحكام العرب، وفسادهم المالي، والسياسي، وطغيانهم، واستبدادهم، وسرقاتهم؟
يبدو أن العرب وحكامهم، هم الضحايا أبداً لكل تدخل خارجي أو مستعمر أجنبي، ما عدا الاستعمار الإسلامي العثماني للعالم العربي الذي استمر أربعة قرون (1517-1918).
وعن آلام ضحايا أمريكا هؤلاء، يكتب الآن معظم الكتّاب العرب، الذين يحقنون كلماتهم للقراء بالمخدرات والمسكنّات، لكي لا يستفيق فيهم مارد المستقبل، في عصر الانحطاط.
السلام عليكم.