quot;تجرأ على المعرفة وتشجّع على استخدام عقلكquot; (كانط)
ثورة الاتصالات العالمية هي الحامل الحقيقي للعولمة الاقتصادية والثقافية. هذه الأخيرة حاملة بدورها للتلاقح الثقافي والقيمي بين جميع الثقافات مما قد يجعلها في المدى المتوسط والبعيد تتلاقى أخيرا في قواسمَ مشتركة ثقافية وقيمية، عقلانية وإنسانية، بين سكان الكوكب: الالتزام بقيم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وبالاتفاقية الدولية لمنع التمييز ضد المرأة، وبالاتفاقية الدولية لحماية الأقليات، وباحترام الحريات الدينية والأكاديمية، وأخيرا اعتبار الفرد المستقل، غير المذنَّب وغير المذوَّب في quot;الأمةquot;، نواة المجتمعات المعاصرة. هذا المشروع المعوْلَم الذي يعيه البعض ويستشعره البعض الآخر بخوف هو الذي يثير سؤال الهُوية المذعورة في أرض الإسلام: مَن نحن في عالم خطر ويتغيّر كلّ يوم بسرعة مدوِّخة. الماضي يتفكك والمستقبل يلفه الضباب؛ تقاليد راسخة، ثوابت قيمية وخصوصيات ثقافية quot;نقيةquot;، شكّلت على مرّ العصور سبب وجود quot;الأمةquot;، غدت مهدَّدة بتهجين ثقافي غير مسبوق يطالبها يوميا بإعادة تعريف نفسها لتتصالح طوعا أو كرها مع العَلمانية؛ أي، المواطنة الكاملة للمرأة والمواطن غير المسلم، وحرية الفرد بما فيها حريته في تغيير دينه، وحقوق المرأة، وحقوق الأقليات، وحقوق الإنسان، والحريات الدينية، وإلغاء عقوبة الإعدام والزنا والردة... وباختصار، إلغاء الشريعة الإسلامية لتنام جنبا لجنب مع الشريعة اليهودية في أرشيفات التاريخ! تحقيق هذه المطالب، المطلوبة من الخارج والداخل معا، كفيل بهز quot;ثوابت الأمةquot; من أساسها.
يزداد رد الفعل على هذا التيار التاريخي إلى التلاقي convergence الثقافي تشنجا عندما يبدو لمعارضيه، الأقل سذاجة، أقوى من كل مقاومة. ألم تحقق الحكومة الإسلامية التركية ما طلبه منها الاتحاد الأوروبي، أليس هذا نذيرا بأنّ واقع العالم quot;الكافرquot; سيصبح، بعد عقد أو عقدين، مستقبل quot;الأمةquot;؟
الحجاب، بين مطالب هوياتيّة أخرى، هو رد فعل مذعور على هذا الاتجاه الجارف إلى غلغلة الحداثة، المهجِـّنة والمُهجَـّنة، إلى كل أصقاع الأرض. كلّ رد فعل مذعور مؤقت لكنه مع ذلك يستأهل التحليل الموضوعي حتى لا يرتقي إلى منزلة المؤقت الذي يدوم طويلا. فما العمل؟ القمع أم الفهم؟ قمع المتحجبات وتذنيبهن أم فهم الدوافع التي فرضت عليهن الحجاب بالعنف المادي حينا والرمزي حينا؟ المرأة التي يُفرَض عليها السفور تحمل حجابا أشد كثافة على العقل بدل الرأس وتلوذ بالخطاب التضحوي المازوشي الذي ينتكص بها إلى عقلية وسلوك الأطفال. بالمِثل، حوّل الحجاب الشرعي الإلزامي نساء إيران حيث تُعاقب quot;مَن تُسيء ارتداء الحجابquot; ب75 جلدة أو 15 يوما سجنا، إلى ناقمات على الحجاب والشريعة معا وينتظرن اليوم السعيد الذي يتمكنّ فيه من تمزيقه.
فما هي دوافع ارتداء الحجاب الاختياري؟ عديدة. منها الموضة ومنها خاصة محاكاة المحجبات اللواتي يظهرن في الفضائيات. ما يهمّني هنا هو الحجاب الاختياري الذي باعثه الوحيد التديّن. أما الأحجبة الأخرى فتزول بزوال الدوافع العرضية التي استدعتها أو فرضتها. ارتداء الحجاب عن قناعة راسخة هو ما أسماه السوسيولوغ بيير بورديو quot;العنف الرمزيquot;، أي اقتناع الضحية برأي جلادها فيها؛ فتُسلّم بأن جسدها فعلا عورة، وأنها فعلا خائنة بالقوة، إذن، في حاجة إلى رادع شرعي حتى لا تمر من النية إلى الفعل، من الإغواء إلى الزنا. هذا النوع من الحجاب جدير بتعرية بواعثه النفسانية وجذوره التاريخية الكفيلة في المدى المتوسط والبعيد، إذا تبناها الخطاب الإعلامي وخاصة التعليمي، بتربية وتنمية وعي الأجيال الطالعة النقدي بحقيقة الحجاب النفسانية والسوسيولوجية والتاريخية تحصينا لهم من التذنيب والتذويب في quot;الأمةquot;.
البواعث النفسية يلخصها العُصاب الجمعي الذي هو ضرب من روح القطيع: الاشتراك في لباس شرعي واحد، أداء شعائر جمعية في وقت واحد... تقدّم مثل هذه الممارسات الجمعية للعصابي القلِق شعورا مطمئنا بالانتماء إلى quot;الأمة الإسلاميةquot; الذي يعطيه الانطباع بأنه لم يعد مجرد ذرّة ضائعة في المجتمع ولا كمّا مهملا في حوليات التاريخ. جسد المرأة كلّه عورة، يُستر كما تُستر العورات، ما عدا quot;الوجه وكف الحرّةquot;. عورة، إذن منطقة إثارة جنسية، نداء للغَواية. تفاديا لهذا المحظور وَجب ستره. المرأة في الوعي الجمعي quot;خائنةquot; بالقوة لزوجها، المالك الوحيد لجسدها. ألف ليلة وليلة، التي جسّدت بكثافة هذا الوعي الجمعي في شخصية شهريار الذي كان يقتل عذراء كل صباح، بعد افتضاضها، حتى لا تـُكرر معه فعل الخيانة الأولى. شهرزاد، التي أنقذت حياتها وحياة بنات جنسها كما أنقذت شهريار نفسه من جنون الغيرة الدموي، أبى quot;عدو المرأةquot;، توفيق الحكيم، إلا أن يجعلها في quot;شهرزادquot;ه تخون شهريار مع أحد عبيده! جنون الغيرة هو الخوف من quot;المقارنةquot; برجل آخر. وهذا هو سر وسواس البكارة. هذا الخوف هو الذي جعل الفقه الإسلامي الذي كتبه الرجال للرجال يفرض الحجاب على المرأة الحرّة؛ أما الأمَةُ، التي هي بمنزلة المومس المبذولة للجميع، فمحظور عليها ارتداء الحجاب لتكون مُتنفّسا جنسيا للرجال عسى أن لا يطمعوا في الحرة. وكلما كان الخوف من المقارنة شديدا كلما ضيّق الرجال الخناق على المتحجبات. وهكذا فرض بعض الفقهاء النقاب زيادة على الحجاب معتبرين حتى الوجه والكفين عورة ايضا! أما الشيخ بن باز فلم يتردد في الإفتاء برجم المرأة التي تخرج من منزلها لأنها تصبح في حكم الزانية. بالمناسبة ابنه، الشيخ احمد بن باز، فهو فقيه واعد ومستنير.
لا سبيل لفهم الديانات الحيّة إلا بمقارنتها بالديانات الميتة، كالبابلية والمصرية، التي كانت الرحم التي تخلقت فيها الأديان التوحيدية عبر التلاقح الثقافي. دعاة الحجاب يعتقدون أن مصدره الوحي. والحال أن مصدره الحقيقي هو التاريخ. بالرغم من أن الوحي، الذي يلعب فيه اللاشعور الفردي والجمعي دورا حاسما، هو أيضا منتوج التاريخ الشخصي والعام. الحجاب الإسلامي يتطابق جوهريا مع الحجاب الآشوري الوثني. جاء في كتاب quot;الحجابquot;: quot;وقد وردت القواعد الخاصة بحجاب النساء مفصلة في القانون الآشوري من حيث تحديد النساء المفروض عليهن الحجاب ومن لا يحق لهن الحجاب. فكان الحجاب فرضا على زوجات كل (سيد)، وكذلك بالنسبة للجواري المرافقات لسيداتهن، كما كان مفروضا على (الغواني المقدّسات) بعد زواجهن. أما العاهرات والإماء فقد كان الحجاب محرما عليهن، والمرأة منهن التي كان يتم القبض عليها وهي مرتدية الحجاب من دون حق كانت تخضع للعقاب بالجلد وصب القار على رأسها وقطع أذنيها، (القوانين 183 ) وتقدم (جيردا ليرنر) تحليلا مفصلا لهذه القوانين (...) التي توضّح أن الحجاب لم يكن يُستخدم فقط لتمييز الطبقات العليا، وإنما كانت وظيفته الأساسية هي التفرقة بين النساء (المحترمات) والنساء المتاحات للعامة. أي أن استخدام الحجاب كان يلعب دورا في تصنيف النساء تبعا لنشاطهن الجنسي، فكان ارتداؤه مؤشرا للرجال لجهة تمييز النساء الواقعات تحت الحماية الذكورية عن غيرهن من المتاحات مشاعاquot; (جمال البنا، quot;الحجابquot;، ص ص 51، 52، رابطة العقلانيين العرب). انتقل الحجاب الآشوري لليهودية: quot;وكان في وسع الرجل أن يطلّق زوجته إذا عصت أوامر الشريعة اليهودية، كأن تسير أمام الناس عارية الرأس أو إذا تحدثت إلى مختلف أصناف الناسquot; (نفس المصدر، ص63).
يفسّر السيوطي الآية 59 من سورة الأحزاب: quot;يا أيها النبيء قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يُعرَفن فلا يُؤذَينquot;، قائلا: quot;يعني بالجلباب حتى تُعرف الأمَةُ من الحرّةquot;. وquot;كان عمر رضي الله عنه لا يدع جارية تتقنـّع (= تتحجب) ويقول: إنما القناع للحرائر لكيلا يُؤذَين (...) رأى عمر جارية مقنّعة فضربها بدِرِّته (= عصاه) وقال: ألقي القناع لا تتشبهين بالحرائر (...) وكانت المملوكة يتناولونها (= ينكحونها) فنهى الله الحرائر أن يتشبّهن بالإماءquot; (السيوطي، الدر المنثور في التفسير المأثور، ص ص 413، 414، 415، 416 ). تماما كما كان الحال في آشور، قبل القرآن ب19 قرنا، quot;أما العاهرات والإماء فقد كان الحجاب محرما عليهنquot; كما يقول القانون الآشوري، ويُعاقبن مثلما عاقب عمر الجارية المتحجبة! لا شك إذن في أن الحجاب الإسلامي وثني.
على المدرسة التنويرية المرتجاة أن تقول ذلك للتلامذة والتلميذات لتنويرهم بحقيقة الحجاب النفسية والسوسيولوجية والتاريخية؛ وأن تقول لهم أيضا أن نساء الرسول لم يطبقن آية الحجاب هذه وquot;قـَرن في بيوتكنquot;. يقول الدكتور محمد عمارة: quot;يشهد على ذلك، أن نساء النبي لم يلزمن بيوتهن لا يخرجن منها بعد نزول هذه الآية فقد كن يخرجن لحاجتهن في حياة الرسول وبعد وفاته. وخروج عائشة للقتال في وقـْعة الجمل شهير (...) وتتفق الأحاديث على أن أزواج النبي ونساء المسلمين كن يصحبن النبي (ص) إلى ميدان القتال... وبقي العمل عليه جاريا بعد نزول آية الحجاب أيضاquot; ( د. محمد عمارة، quot;أبو الأعلى المودوي والصحوة الإسلاميةquot; ص 394، دار الوحدة).
إذا كان نساء النبي لم يطبقن لا في حياته ولا بعد مماته آية الحجاب، فكيف يجول بخاطر عاقل، لم يذهب بصوابه جنونُ الغيرة من احتمال مقارنة زوجته له برجل آخر، أن يطالب المسلمات، بعد 15 قرنا من نزول آية الحجاب، بتطبيقها المستحيل بالنسبة لنصف مليار مسلمة خاصة العاملات منهن؟
يا صناع القرار التربوي دعوا مدارسكم تتكلم عن المسكوت عنه وإلا دفعتم ثمن سكوتها عن المسكوت عنه نقصا في الاستقرار والأمن والتنمية ومزيدا من الفوضى والدم المسفوك.
فائدة: اكتبوا على أبواب مدارسكم وجامعاتكم اجتهاد جمال البنا: quot;لم يفرض الإسلام الحجاب على المرأة بل فرض الفقهاء الحجاب على الإسلامquot;.
نراكم الأحد المقبل