سألت صديقة كاتبة وشاعرة عراقية معروفة: (لماذا توقفت عن الكتابة والنشر في موقع quot;....quot;)؟ فأجابتني: (بصراحة لم أعد أتحمل تعليقات القراء الذين لا ينقدون النص المكتوب، بل يقفزون عن ذلك متعرضين بالسباب والشتائم والتجريح للكاتب إلى درجة الطعن في أخلاقه وسلوكه، بما فيها اتهامات العمالة والخيانة، فقررت الكتابة والنشر في المواقع التي لا تسمح بكتابة تعليقات على المواد المنشورة). وتذكرت عندئذ أن كاتبا عراقيا آخر طلب من الموقع نفسه أن يحجب التعليقات عن مقالاته، فلما رفض الموقع توقف عن الكتابة والنشرفيه أو أن إدارة الموقع توقفت عن النشر له. ثم سألتني نفس الصديقة: (أنت كيف تتحمل هذا النوع من التعليقات التي لا علاقة لها بنقد النص المنشور في الغالب؟). أجبتها أن تحملي وقبولي لهذا النوع من التعليقات مرده إلى عدة عوامل منها:
الأول: أنني أكتب للقارىء العربي ومن المهم أن أعرف ردود فعل هذا القارىء، سلبا أم إيجابا، موافقة أم رفضا، لأن ردود فعله هذه من شأنها أن تزيد قناعتي ببعض أفكاري أو قناعتي بخطء بعضها وبالتالي تصحيحها، فليس دوما الكاتب على حق والقارىء على خطأ، لذلك فالتفاعل بين الطرفين مهم لهما معا، وهذه هي طبيعة العلاقة الجدلية المثمرة بين الطرفين، متذكرا دوما أن نسبة لا بأس بها من القراء يتمتعون بذوق وخلق راق في التعليق والنقاش، يقدمون حججا نقيضة لما كتبه الكاتب ربما تكون أحيانا أكثر دقة وموضوعية مما ذكره الكاتب، وهذا النوع الراقي المنطقي العقلاني من القراء ينسيني شتائم واتهامات الفريق الآخر.
الثاني: أنني أعرف طبيعة الثقافة التي ينطلق منها غالبية العرب، وهي ثقافة إلغاء الآخر ونرجسية الذات المتضخمة، التي تجعل نسبة عالية منهم يتحدثون ويجادلون في كافة الموضوعات والعلوم النظرية والعلمية، وهم لم يحصلوا على شهادرة الدراسة الثانوية، وربما من هذه الخلفية انطلق القول الذي ينسبه البعض لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (رحم الله إمرىء عرف قدر نفسه). ونقيض هذه النرجسية المتضخمة الكاذبة تلك الشخصية المتمكنة المتواضعة التي أنتجت القول: (رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب) وهو القول الذي ينسب للإمام علي رضي الله عنه وللإمام الشافعي.
الثالث: هو إدراكي أنه من سمات النقاش العربي الاعتماد على الإصرار على تخطيء الآخر إلى درجة أن هذا الإصرار انتج مثلا عربيا يقول: (خذوهم بالصوت العالي قبل أن يغلبوكم)، ويترافق هذا الصوت العالي غالبا بالشتائم والسباب على نقيض تعاليم الإسلام التي منها: (لا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)، وإذا بتطبيقاتنا العربية اليومية تقول: (ادفع بالتي هي أسوأ لأن من بينك وبينه خلاف في الرأي من الأساس هو عدو حميم).


جمال البنا نفسه لم يسلم من الشتيمة والسباب
والدليل على أن هذا السلوك من سمات الشخصية والثقافة العربية، هو أن شخصيات عربية إسلامية لها وزنها التنويري والأكاديمي الملتزم إسلاميا، لم تسلم من الشتائم والسباب من قبل من يخالفونهم الرأي. فمن يصدق أن شخصية مهمة مثل الأستاذ جمال البنا المولود في بمحافظة البحيرة في مصر عام 1920 أي أنه اليوم ndash; أطال الله في عمره - على أبواب التسعين من عمره، وهوالشقيق الأصغر للمرحوم حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، وله ما يزيد عن أربعين كتابا، صدر أول كتاب منها عام 1945 بعنوان quot; ثلاث عقبات في الطريق إلى المجد quot;، ومن كتبه المهمة quot; نحو فقه جديد quot; في ثلاثة أجزاء، و quot; مسؤولية فشل الدولة الإسلامية في العصر الحديث quot; و quot; الأصولية الفكرية للدولة الإسلامية quot; و quot; العودة إلى القرآن quot;، وكل كتبه تشكل مصدرا لا غنى للدراسات والمراجع الإسلامية المعاصرة. من يتخيل أن هذا المفكر الإسلامي بهذا الثقل الفكري، لم يسلم من الشتامين والسبابين الذين لا أعتقد تركوا كلمة وصفة شتيمة في اللغة العربية إلا ونعتوه بها، من الجاهل إلى الأحمق إلى الناطق باسم الشيعة (وكأن النطق باسم الشيعة عيبا) إلى المرتد إلى الطلب من النائب العام الحجر عليه وتقديمه للمحاكمة كما طالب المحامي المصري نبيه الوحش. وأنا هنا لا أدافع عن جمال البنا ولكن أعطي مثالا مفاده إذا كانت هذه الشخصية الإسلامية نالها هذا القدح والشتم والتجريح، فهل يغضب الكتاب الآخرين؟. ولهذا السبب كتب جمال البنا قبل أيام قليلة دراسة من حلقتين بعنوان quot; يا معشر السبابين سلاما quot;، تعرض فيها لهذه الظاهرة العربية المعيبة التي تصادر العقل والفكر، وتحل محله الشتيمة والسباب وعدم مقارعة الحجة بنقيضها.


حتى اللون الأسود أصبح شتيمة وعيبا
كلنا يتذكر قول الله تعالى quot; لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم quot; وهذا في غاية التكريم الإلهي لبني البشر أيا كان لونهم وجنسهم، ورغم ذلك يستعمل فريق الشتامين العرب اللون الأسود الذي هو خلق الله، كصفة للشتيمة ويقرنون اللون الأسود بصفة العبد...من يتخيل هذا المستوى الذي وصل إليه بعضنا، وقد كتب أكثر من كاتب سوداني ينتقدون هذا النوع من الشتائم الذي يتعرضون له بسبب لونهم الذي هو من خلق الله تعالى.

وقد سبق المتنبي الجميع في هذه الشتائم
ولماذا نستغرب من القراء العاديين أو غيرهم ممن يلجأ لهذه الشتائم، وقد كان من السباقين في فريق الشتامين، شاعر العروبة أبو الطيب المتنبي، الذي وصل به التملق لكافور الأخشيدي حاكم مصر أن أسبغ عليه أجمل الصفات وأعلاها، ولم يبق سوى أن يقبل قدميه وصولا لمنصب يتمناه، فالمتنبي هو القائل لكافور الأخشيدي:
أبا المسك هل في الكأس من بقية فإني أغني منذ حين وتشرب
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية فجودك يكسوني وشغلك يسلب
وعندما يئس أن يمنحه كافور الأخشيدي أي منصب أو ضيعة أو ولاية، انقلب عليه شاتما مستعملا كل ما في اللغة العربية من كلمات قبح وبذاءة بما فيها معايرته أنه أسود اللون. ومما قاله شاتما كافور الأخشيدي:
ما يقبض الموت نفسا من نفوسهم إلا وفي يده من نتنها عود
العبد ليس لحر صالح بأخ لو أنه في ثياب الحر مولود
لا تشتر العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد
ويعايره بشقوق قدميه فيقول:
وتعجبنب رجلاك في النعل أنني رأيتك ذا نعل ولو كنت حافيا
وإنك لا تدري ألونك أسود من الجهل أم قد صار أبيض صافيا
ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة ليضحك ربات الحداد البواكيا
لا استسلام لفريق الشتامين
وكونها ظاهرة عربية، لا مفر من مواصلة الكاتب لمهمته رغم الشتائم واتهامات العمالة والخيانة، فهذا هو سلاح من لا يستطيع محاججة أفكارك بأفكار نقيضة، وليت فريق الشتامين يدرك أن محاججة الفكرة بالفكرة النقيضة ربما يكون من نتائجه إقناع الكاتب بتلك الأفكار النقيضة وهذا مكسب لهم، بينما الشتائم لا نتيجة لها سوى تعميم الخلق السيء....ولا مفر من رفع الشعار الذي رفعه الأستاذ جمال البنا (يا معشر السبابين سلاما)!!.
[email protected]