تشكل السياسة والأجندة الإسرائيلية الخاصة بالاستيطان وبناء المستوطنات في أراضي الضفة الغربية و حول مدينة القدس، مسألة خطيرة تهدد فعلا عملية السلام أيا كان راعيها الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوربي أو من يدخل على خطها من جديد. وهي سياسة إسرائيلية ذات بعد استراتيجي لدى الحكومات الإسرائيلية على اختلاف مشاربها: ليكود أم عمال أم وسط حيث من الغرابة والاستهجان أن تصعيد بناء المستوطنات الجديدة وتوسيع القديم منها وهدم منازل الفلسطينيين في القدس الشرقية، قد زاد بوتيرة متصاعدة عقب توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 التي أدرجت موضوع المستوطنات ضمن الموضوعات التي سيتم التفاوض عليها لاحقا، ولاحقا تمّ العكس إلى الحد الذي جعل حركة السلام الإسرائيلية الرافضة صراحة لسياسة الاستيطان، أن تعلن في بداية عام 2008 أنّه حوالي 100 مستوطنة عشوائية مأهولة بالسكان اليهود موجودة وقائمة فعلا في الضفة الغربية، من بينها 65 مستوطنة أقيمت بعد وصول الحي الميت شارون للحكم في مارس 2001.


تصعيد استيطاني مستمر
وكل هذا التحدي والتصعيد رغم أن غالبية دول العالم تعتبرها غير شرعية ويجب تفكيكها أيا كانت تسميتها لدى الجانب الإسرائيلي. ومجرد التأمل في التسميات الإسرائيلية يثير البكاء والدهشة، فهم يطلقون اسم quot;المستوطنات quot; على ما تمّ بناؤه بقرار رسمي من الحكومة الإسرائيلية، أما التوسيعات التي يقيمها المستوطنون على هذه المستوطنات فهي عند السلطة الإسرائيلية quot;مستوطنات عشوائيةquot;. وإذا ما أرادت الدولة الإسرائيلية تخدير الرأي العام العالمي أو الضحك عليه خاصة قبل زيارة رئيس دولة عظمى مثلا، تقوم بإزالة بعض هذه البيوت العشوائية، ويقوم المستوطنون بإعادة بنائها بعد أيام قليلة تحت بصر وعلم الحكومة، وهي سياسة رسمية وعلنية خاصة للحزب اليهودي المتطرف quot;إسرائيل بيتنا quot;، ويهدد دوما زعيمه أفغيدور ليبرمان وزير الخارجية في الحكومة الحالية بالاستقالة إذا عمدت الحكومة للمس بسياسة وتوجه تصعيد الاستيطان. ومجرد ذكر بعض الأرقام الخاصة بالاستيطان في الضفة الغربية، يؤكد خطورة هذا الوضع وتهديده ليس لمسيرة السلام فقط ولكن لمستقبل الضفة الغربية، فهذه الأرقام تقول أنه حتى نهاية العام 2007 بلغ:
1. عدد المستوطنات 207 مستوطنة.
2. عدد المستوطنين الإسرائيليين فيها يزيد عن نصف مليون مستوطن.
3. مساحة هذه المستوطنات المسروقة من أراضي الضفة الغربية 453 كم.
هذا غير الأراض الفلسطينية التي تم عزلها لحماية هذه المستوطنات، وغير الشوارع الرئيسية والالتفافية التي تم شقها لتسهيل تنقل المستوطنين، و المساحات التي صادرتها قوات الاحتلال منذ انتفاضة عام 2000 يزيد عن 600 ألف دونم، مما يجعل مساحة المستوطنات والأراضي المصادرة تزيد عن 4 %، بينما قطاع غزة الذي تبلغ مساحته الإجمالية 365 كيلومتر مربع، فإن المنطقة الأمنية التي تقع تحت السيطرة الإسرائيلية على طول حدود القطاع تزيد عن 18 % من مساحة القطاع.
وتزايدت كافة هذه الأرقام بشكل مذهل في العام الماضي خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الأراضي التي هجرها ملاكها الفلسطينيون لوقوعها على حدود تلك المستوطنات، ويتعرضون يوميا لعنف المستوطنين بما فيه إطلاق الرصاص عليهم لمنعهم من استغلال أراضيهم، وبالتالي يسهل الاستيلاء عليها وتوسيع المستوطنات القريبة منها. والأرقام نفسها أكثر رعبا فيما يتعلق بالقدس الشرقية التي ضمتها السلطات الإسرائيلية عام 1967 للقدس الغربية معتبرة القدس الموحدة عاصمة أبدية لدولة إسرائيل، مطالبة دول العالم بنقل سفاراتها من تل أبيب إليها.

الموقف الأمريكي من الاستيطان

أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما في خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الثالث والعشرين من سبتمبر 2009 (أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر مواصلة الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة غير شرعي)، وجاء تأكيده هذا بعد يوم من لقائه الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، وطالب بتجميد تام للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية لتسهيل مفاوضات عملية السلام. وقد أكدت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون في مؤتمرها الصحفي مع وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط، الأربعاء الرابع من نوفمبر 2009: (أنّ سياسة بلادها ترفض الأنشطة الإستيطانية الإسرائيلية، وأنّ هذه السياسة تعتبر مواصلة إسرائيل لإعمالها الاستيطانية أمر غير شرعي)، و (أن واشنطن ترغب في قيام دولة فلسطينية مستقلة على أراضي حدود عام 1967).

ما هو العرض الإسرائيلي؟

أعلنت هيلاري كلينتون في المؤتمر الصحفي ذاته أن الولايات المتحدة تلقت عرضا إسرائيليا يتعلق بموضوع المستوطنات، دون ذكر تفاصيله رغم أنها قالت عنه: (إن العرض الإسرائيلي الذي تلقته الولايات المتحدة بشأن التجميد الجزئي للاستيطان تحرك إيجابي حتى لو لم يكن ما نفضله). وفي الصدد ذاته قالت في مقابلة مع quot; قناة الحرةquot;: (عندما دعونا تحت قيادة الرئيس أوباما إلى إنهاء الأنشطة الاستيطانية، كان ذلك إعادة إقرار للسياسة الأمريكية وإعادة التزام من قبل إدارة أوباما بأن النشاط الاستيطاني غير شرعي. وعن العرض الإسرائيلي المذكور أوضحت تفاصيل أكثر في قولها: (إن العرض الذي تقدمت به الحكومة الإسرائيلية لا يمثل كل ما ترغب به واشنطن، إلا أنه سيكون كفيلا بإنهاء كافة الأنشطة الاستيطانية ووقف منح تراخيص بناء جديدة في المستوطنات ومصادرة الأراضي، وسيعزز من فرص استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين).

من فمك يا كلينتون لباب الحكومة الإسرائيلية

لا نريد استباق المواقف الميدانية للحكومة الإسرائيلية بطرح مزيد من التفاؤل النظري، إلا أن قراءة التطورات توحي أن هناك ضغوط أمريكية ودولية، ومواقف فلسطينية متشددة من شأنها أن تحدث ليونة في التشدد الإسرائيلي، وهذا يذكرنا بموقف ميناحيم بيجن عقب توقيع معاهدة كامب ديفيد مع مصر عام 1979، عندما رفض الرضوخ لابتزاز المستوطنين والمتطرفين اليهود، وقام فعلا بتفكيك كافة المستوطنات الإسرائيلية في شبه جزيرة سيناء المصرية.
ويبدو أن هناك تفاصيل أخرى أعطيت لوزراء الخارجية العرب بدليل قول هيلاري كلينتون: (أوضحت لوزراء الخارجية العرب خلال اجتماعي بهم على هامش مؤتمر المستقبل في المغرب، كيفية عمل المقترح الإسرائيلي الخاص بالاستيطان، وأعتقد أن الوزراء العرب تفهموا الأمر)، وربما هذا ما دعا وزير الخارجية المصري إلى القول بضرورة الاستماع إلى الموقف الأمريكي الواضح فيما يخص القضايا العالقة، وقد أعقب ذلك اتصال الرئيس المصري بالرئيس الفلسطيني حيث تباحثا في جهود إحياء عملية السلام كما نقلت وكالة الصحافة الفرنسية.

الموقف العربي والمصالحة الفلسطينية

إن هذه المؤشرات الايجابية يمكن تعزيزها باستمرار الموقف العربي الضاغط والرافض للسلام الشامل كما تطلب إسرائيل، إلا إذا قامت بتفكيك المستوطنات القائمة وتجميد الاستيطان، لأن كافة هذه الأنشطة غير الشرعية حسب كافة القوانين، تتم تحت مسميات منها حماية أمن إسرائيل، وهذا الأمن يتحقق بتطبيق كامل للمبادرة العربية (الأرض مقابل السلام). وتؤكد كافة الشواهد أنه لا توجد دولة عربية مستعدة لتوقيع معاهدات سلام جديدة قبل الايفاء بهذه الالتزامات من الطرف الإسرائيلي، وكذلك الدول الموقعة على معاهدات سلام مثل مصر والأردن، فهي حتى الآن مجرد معاهدات بين حكومات لم تجد صيرورتها وتطبيقاتها في شوارع البلدين بسبب الرفض الشعبي، فربما تدرك الحكومات الإسراتئيلية هذا الدرس. وكذلك فإن اتمام المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام الحاصل من شأنه أن يعزز هذه المواقف، لأنه في النهاية ستدرك سلطات الاحتلال أن العنف لا يولد سوى العنف، والظلم ومصادرة الحقوق لن ينتج عنه سوى العنف أيضا. فهل تدرك الأطراف الفلسطينية أن الموقف الوطني الموحد أثمن من خلافاتها واقتتالها الحالي، لأنه اقتتال على المصالح الشخصية والتنظيمية فقط، والضائع هو الوطن والذي يزيد ويتوسع هي المستوطنات.

تصاعد التنديد الدولي بالمواقف الإسرائيلية

وما يدعم الموقف الفلسطيني والعربي والأمريكي في مواجهة الموقف الإسرائيلي المتعنت و المماطل، هو تصاعد التنديد الدولي صريحا وغاضبا، فالأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون دعا قبل أيام قليلة إسرائيل إلى وقف أعمالها التحريضية في القدس الشرقية، وأعرب عن ذهوله لتصرفات إسرائيل في القدس الشرقية وهدم منازل الفلسطينيين، وإسكان مستوطنين في أحياء غالبية سكانها فلسطينيون. ودعا إسرائيل أيضا إلى ( وقف هذا النوع من التحريض، والوفاء بالتزاماتها حيال خارطة الطريق بتجميدها كل الأنشطة الاستيطانية بما فيها المتعلقة بالنمو الطبيعي وتفكيك المراكز المتقدمة وإعادة فتح المؤسسات الفلسطينية في القدس الشرقية ). وكذلك وزير الخارجية البريطاني ديفيد ميليباند، أعلن صراحة موقف بلاده الرافض للأنشطة الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية، وقال: ( إن وجهة نظرنا إزاء الاستيطان واضحة وهي أن المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية، غير شرعية وتشكل أيضا عقبة في طريق السلام ). وعقب محادثاته مع العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني قال: ( لقد تحدثت مع الملك عبد الله الثاني والمبعوث الأمريكي جورج ميتشل حول ما أرى أنها محاولة صادقة من حكومة الرئيس أوباما وبقيادة الرئيس نفسه، مدعوما من وزيرة الخارجية كلينتون والمبعوث الخاص ميتشل، لإيجاد سبيل ذات مصداقية تؤدي إلى إحلال سلام حقيقي وإنشاء دولة فلسطينية ذات مصداقية، وأعتقد أنه ينبغي أن يفهم الجميع أن هذه العناصر الثلاثة مترابطة ).

نأمل أن تكون كل هذه الظواهر بداية صحوة فلسطينية عربية دولية في مواجهة التعنت الإسرائيلي، هذا التعنت الذي هو أكبر خطر على دولة إسرائيل، بدليل أن حركة السلام الإسرائيلية ذاتها تدرك منذ سنوات أنه لا راحة ولا أمن للمواطن الإسرائيلي، إلا بنفس الراحة والأمن للمواطن الفلسطيني الذي لن يصل لذلك إلا بدولة مستقلة ذات سيادة ضمن حدود عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، فهل يدرك المسؤولون الإسرائيليون هذه الحقيقة؟.
[email protected]