من جديد، تضرب قوى الشر الإرهابية بغداد يوم الثلاثاء الدامي ليسقط المئات بين قتلى وجرحى.
مرة أخرى، تتجدد الاتهامات حالا، وبلا تحقيقات، فأحدهم مثلا وجه الأصابع حالا للسعودية وسوريا، وعاد السفير العراقي في الرياض ليعلن باسم رئيس الجمهورية أن التصريح المذكور لا يمثل رأي الحكومة. وثانية، وثالثة، ينفجر الخلاف بين رئيس الوزراء ووزير الداخلية، وتتباين التوجهات، ورئيس الوزراء، وكعادته، يبرئ نفسه من كل تقصير ويرمى الأسباب على المنافسات الانتخابية والمتاجرة بالقضية الأمنية، منذرا بخطر quot;وقوع الهيكل على الجميعquot;!!
بالطبع، لا يمكن تحميل المالكي وحده مسئولية الغفلة والتقصير الأمنيين، ولا مسئولية الأجواء الانتخابية الساخنة التي تضيع معها في المنافسة مصالح البلد والوطن، وعلى الخصوص قضية حماية المواطنين. فالجميع لاهثون وراء الكراسي البرلمانية، والمنافسة عارمة حول مركز رئيس الوزراء القادم، وهو ما يشغل السيد المالكي كثيرا. وبينما تضرب بغداد بسهولة ملفتة للنظر، نرى 25 ألف عسكري خارجها لحماية الاحتفال بعيد الغدير، وهو ما عودتنا عليه الحكومة في كل مناسبة دينية بتعبئة الحشد الأكبر من القوات المسلحة والأمنية لحماية المناسبة.
إن عراق المحاصصات الطائفية والتقوقع الفئوي والعرقي والمذهبي، هو الذي يخلق مناخا تستغله كل القوى المعادية لشعبنا، إقليمية وداخلية، وهو الذي يسمح بوجود قوى وشخصيات سياسية تتفنن في إلقاء اللوم على الآخر طمسا لدور الذي يتهم وتحميل الآخر كل المسئولية في عمليات تصفية حسابات. وهذه الممارسات هي حقا لمأساة لا تقل هولا عن مآسي الدماء المراقة كل يوم. فتوجيه الاتهامات المتكررة دون براهين لا يبقي لها ولمن يوجهها أية مصداقية، فهذا التكتيك سلاح ذو حدين. ولا نزال نتذكر توجيه تهمة إلى أحد أفراد عائلة الملكي بتهريب الآثار، ثم قيل إنها تهمة كاذبة. وهناك تهم أكبر نشرت حول علاقة رئيس الوزراء بإيران، لم نجد عليها ردا مفحما. ومن ذلك التقرير الطويل الذي نشره الصحفي العراقي معد فياض في quot;الشرق الأوسطquot; بتاريخ 6 سبتمبر المنصرم بعنوان quot;لعبة الكراسي العراقية والروليت الإيرانيquot;. ومما ورد في التقرير الادعاء باستخدام المالكي لطائرة إيرانية وبطاقم إيراني في زياراته الرسمية. والخبر منقول، كما يقول الكاتب، عن quot;مصدر مخابراتي مقرب من محمود الشهوانيquot;- رئيس هيئة المخابرات المُقال. ألم نقل إن السهولة في الاتهامات سلاح ذو حدين!؟
بعد الأربعاء الدامي، قام السيد المالكي ببعض التغييرات الأمنية، وأزاح هذا وجاء بذاك، فقلنا إن الحكومة تعلمت أخيرا. ثم جاء الأحد الدامي، فإذا بنا نرى بقاء الأحوال التي تجعل ممكنا تنفيذ عمليات إرهابية كبرى بهذا الحجم. نعرف أنه غير ممكن تجنب وقوع عمليات إرهابية حتى في أكثر الدول الديمقراطية رسوخا. ولكننا في العراق أمام ظاهرة تتكرر كل يوم، وأمام حكومة لا تريد تحميل نفسها مسئولية التقصير، مع أنه في أي بلد ديمقراطي يستقيل الوزير المختص، أو أكبر منه، فيما لو تكررت- مثلا - حوادث تصادم قطارات، أو التأخر في إسعاف ضحايا كوارث طبيعية. وقد تلقى جورج بوش لوما شديدا للتأخر في إسعاف ضحايا إعصار كاترينا.
عندما ننتقد السيد المالكي أكثر من غيره فلأنه رئيس الحكومة، وقد حصر في يديه كل شيء تقريبا، والقرارات الخطيرة تصدر عن مكتبه، وإن دور مجلس الوزراء ثانوي. وعندما نراه جريئا في الموقف الساخن من سوريا، فإنه يجب انتقاده بشدة لصمته المثير عن التدخل الإيراني، الذي تحول إلى هيمنة شبه شاملة وبادية للعيان- هيمنة يفضل بعض الساسة، كالسيد إياد جمال الدين، وصفها بquot;الاحتلال من غير مدافع وطائراتquot;. والمالكي يجب انتقاده لسكوته عن إعلان مقتدى الصدر أوامره من إيران إلى تنظيمه المسلحquot;لواء اليوم الموعودquot; بمهاجمة القوات الأميركية والبريطانية. نعم، إن رئيس الوزراء غير مسئول عن مواقف مقتدى، الذي هو مجرد أداة من أدوات إيران في العراق. ولكن المالكي، وبصفته رئيسا للوزراء، والموقّع على اتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة، كان عليه محاسبة هذا المقتدى واتخاذ الإجراءات لحل تنظيمه المسلح ولو بالقوة. وإيران تساهم مع تركيا وسوريا في عطش العراق وتجفيف أراضيه منذ فترة طويلة. وقد حل أردوغان في بغداد، وجرى التوقيع على اتفاقات مهمة أشاد بها الطرفان. فأين كانت مسألة المياه منها؟ سمعنا من قبل أن الأتراك وعدوا خيرا، أما إيران فلم نسمع عن مفاوضات معها حول الموضوع، ثم فجأة ها هو مكتب المالكي يهدد تركيا وإيران بقطع العلاقات بسبب المياه! بالطبع، هو تهديد أجوف، وفي غير محله. فبدلا من هذا التهديد غير المطلوب، يجب اتخاذ عقوبات صارمة، مثلا كطرد الشركات الإيرانية المكتسحة ووقف الاستيراد من طهران، وعقوبات مماثلة، [ 10 آلاف مزرعة عراقية تشكو من منافسة الطماطم المستورد من تركيا وإيران. هذا مجرد مثال.] والعقوبات ضرورية فيما لو استمرت تركيا في مشاريعها المائية الضارة بالعراق. ويجب أيضا تقديم شكاوى بهذا الشأن للأمم المتحدة والوكالات الدولية المعنية، مع شكاوى أخرى عن الأمن والإرهاب.
إن صمت المالكي عن الدور الإيراني في تخريب أمن العراقيين، هو أكبر ما يلام عليه. فقد أصم أذنيه عما كشفه وزير الدفاع بعد الأربعاء الدامي عن كون الأسلحة التي استخدمت في الجرائم كانت إيرانية الصنع. ويقول اليوم مساعد قائد القوات الأميركية في العراق،الجنرال تشارلز جاكوبي، إن عدد المقاتلين الذين يتسللون من سوريا انخفض كثيرا ولكنهم لا يزالون يشكلون خطرا. وقال إن إيران ما زالت تدعم quot;المتمردينquot; في العراق وتزودهم بالمال والسلاح ، وإنها تقوم بحملة تخويف على الصعيد السياسي، وتنشئ هيئات تستخدم لتنفيذ عمليات استخبارية لا تعمل لصالح الشعب العراقي، وإن النفوذ الإيراني في العراق غير مقيد في كل المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية. وأكد الجنرال أيضا: quot; أن الإيرانيين ما زالوا يدربون قادة [ مجموعات خاصة] من المتطرفين الشيعة ويوفرون لهم وسائل العودة للعراق.quot;
نعم، لا يمكن وقف الإرهاب، ولكن يمكن ويجب تحجيمه للحد الأقصى وتقليل الخسائر البشرية والمادية. فالقوى البعثية الصدامية لا تزال تنشط ولها قوة ومواقع، وكان تنظيم عزة الدوري قد أعلن في بداية نوفمبر الماضي عن تشكيل quot;جبهة مسلحةquot; واسعة ، وكان أنصاره قد انتشروا بقوة في منطقة كركوك وغيرها. والقاعدة عادت لتعزيز قوتها بعد ما تلقت ضربات قوية من الصحوات. والمليشيات الموالية لإيران، كعصائب أهل الحق ومليشيا لواء اليوم الموعود وغيرها لا تزال قائمة، والقوات الأمنية والقوات المسلحة مخترقة ويعمها الفساد. إن أخطار هذا الرؤوس الشريرة ستستمر زمانا، ولكنها لا تدحر بدون الجدية والحزم في وقف التدخل الإقليمي، ولا تدحر مع نظام المحاصصات والتنافس المحموم على الكراسي في غياب الحس الوطني المشترك. وهي لا تدحر دون محاربة الفساد أينما كان، وبلا انتقائية ومحاباة كالمحاباة لوزير التجارة السابق. وإن quot;هيئة المساءلةquot; يجب وضعها في أيدي عناصر غير حزبية ومستقلة تماما، وذات شجاعة أدبية وشعور وطني عميق. ولحسن الحظ، قد فشل مرشح المالكي لرئاسة الهيئة في البرلمان، ولعل هذا قد يعلمه قليلا أن لا يسعى للاستحواذ على كل مفاصل السلطة والتركيز على توسيع صلاحياته الفردية. لقد كان تأييد المالكي واجبا وطنيا فيما يخص توزيع الصلاحيات بين المركز الاتحادي وبين إقليم كردستان والمحافظات، فالعراق بحاجة لدولة قوية اتحادية ديمقراطية لا إلى دولة رخو تكاد تتحول إلى إمارات. لكن هذا شيء، وتفرد رئيس الوزراء بالقرارات شيء آخر.

هذا ولنا عودة للموضوع..
ملحق: بعد كتابة هذا المقال نشر شيء عن جلسات البرلمان لمساءلة رئيس الوزراء والوزراء الأمنيين حول العمليات الإرهابية للثلاثاء الدامي.

1 - وزير الدفاع قال إن معظم الأسلحة روسية الصنع ودخلت من سوريا.وكان قد أعلن بعد عمليات الأربعاء الدامي أن الأسلحة المستخدمة في عمليات ذلك اليوم إيرانية الصنع؟!
2 - البرلمانية السيدة ميسون الدملوجي تقول نصا: quot; المالكي لم يتحمل أية مسئولية ولم يكن صريحا في طروحاته ، لاسيما وأنه لم يتعامل مع القضية بحجمها، وألقى اللوم على الجميع، ولم يعترف بفشل الخطة الأمنية.quot;
12 ديسمبر 2009