كان التطورالاقتصادي الذي رافق فتح قناة السويس عام 1869 لتأمين مصالح انكلترا في ايجاد طريق يربط الهند بأوربا عن طريق الفرات لتصدير المنتوجات الزراعية في العراق وكذلك بدايات اكتشاف النفط والتحولات التي رافقت اصلاحات مدحت باشا (1869 ـ 1872) ساعد شيوخ العشائر على تحويل جزء كبير من انتاج القبيلة الى بضاعة وعرضها في السوق، مما دفع الى دخول الاقتصاد النقدي ونشره بين العشائر العراقية، وبخاصة زراعة الشعير الذي تم تصديره الى فرنسا وانكلترا.وبهذه الطريقة استطاع الشيوخ، وعلى حساب افراد قبائلهم ان يتحولوا، وبوقت قصير الى اغنياء ويتعدى نفوذهم الى خارج حدود مناطقهم. وبانهيار نظام الملكية الجماعية للقبيلة في العراق بدأ تفكك نظام العشيرة واخذت العشائر العراقية بانتاج يتعدى حدود الاكتفاء الذاتي. وهو ما عمق الصراع بين الفلاحين وبين مالكي الاراضي الزراعية الجدد، بعد تسجيلها في الطابو بأسماء الشيوخ. كما رسخ quot;قانون العشائر العراقيةquot; الذي سنه الانكليز، والذي اعطى للشيوخ عدداً من الامتيازات واصبح لهم بعد سنوات قليلة نفوذ قوي في الحياة السياسية والاقتصادية.. والحال كان نظام الملكية الكبيرة طارئاً في العراق لانه لم يستمد قوته وشرعيته من حيوية داخلية بقدر ما استمدها من سلطة الاحتلال البريطانية مما جعل اكثر من نصف الاراضي الزراعية في ايدي عدد قليل من ملاكي الارض شبه الاقطاعيين من الشيوخ والتجار والعسكريين وافراد العائلة المالكة. وبسبب العلاقات الاجتماعية شبه الاقطاعية ووضعية الفلاحين المزرية وظروف عملهم المتخلفة وانعدام ادنى شروط السكن والصحة والنظافة والتغذية تدهورت اوضاع الفلاحين الزراعية والاقتصادية والاجتماعية وقادت الى افقار شديد دفع اكثرية الفلاحين الى الهرب من واقعهم المزري والهجرة الى عالم المدينة الضبابي المملوء بالأحلام العريضة علهم يجدون فيه عزاء وسلوى.
ومنذ نهاية الاربعينيات من القرن الماضي بدأت موجات النزوح الريفي الى المدن الكبيرة وبخاصة العاصمة بغداد بحثاً عن أي عمل كان وبالتالي الانخراط في حياة المدينة والعمل في دوائر الدولة والخدمات وشركات البناء وغيرها.
وتبين الاحصائيات العلمية بان نسبة المهاجرين من سكان الارياف الجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية هي اعلى بكثير من نسبة المهاجرين في المناطق العراقية الاخرى، وبصورة خاصة من ألوية العمارة والكوت والبصرة. كما اخذت الكثافة السكانية في المدن العراقية الكبرى تزداد بصورة مستمرة وبخاصة مدينة بغداد، التي اصبح ثلث سكانها في منتصف الخمسينات من المهاجرين من جنوب العراق . وقد نمت احياء سكنية وصرائف رثة في ضواحي العاصمة بغداد الشرقية، ومنها انطلق النازحون للبحث عن اي عمل كان، وبالتالي الانخراط في حياة المدينة شيئا فشبئا للعمل في الدوائر الحكومية وفي شركات الخدمات والبناء وغيرها.
وتبين نتائج التعداد السكاني لعام 1965 ارتفاع عدد سكان المدن وانخفاض واضح في عدد سكان الالوية الجنوبية وبخاصة في العمارة والبصرة والناصرية والديوانية. وقد قدر عدد النازحين بين عامي 1957 ـ 1965 الى المدن الكبيرة بثلاثمائة وثلاثين الف نسمة تقريبا. وكانت اغلبية النازحين من محافظة ميسان (29,4%) تليها ذي قار ثم ديالى ثم نينوى. كما سبب النزوح الريفي الى المدن ارتفاع نسبة raquo;التحضر الشكليlaquo; فيها ووصل في العقدين الاخيرين الى اكثر من75% وامتداد العلاقات العشائرية والقيم والتقاليد الريفية، ذات الاصول البدوية، الى المدن وسيطرتها على العلاقات الحضرية وبالتالي اخضاعها لقوتها الكمية وليس النوعية بحيث يمكن وصفها بـraquo;بداوة مقنعةlaquo; عملت على تشويه العلاقات والروابط المدينية واحداث تحولات بنيوية مفاجئة داخل الطبقات الاجتماعية صعوداً ونزولاً حيث توحدت مصالح الشيوخ شبه الاقطاعيين مع الارستقراطية التجارية والعسكرية للدفاع عن مصالحهم المشتركة والوقوف امام الفئات الاقل تمييزاً ولكن‮ ‬الاكثر‮ ‬وعياً‮ ‬بواقعهم‮ ‬المرير،‮ ‬وهو‮ ‬ما‮ ‬ساعد‮ ‬على‮ ‬تحول‮ ‬النظام‮ ‬الملكي‮ ‬الى‮ ‬عامل‮ ‬تخلف‮ ‬وتعويق ‬واستبداد‮.‬
واذا كانت اسباب النزوح الريفي تتلخص في انخفاض مستوى المعيشة وعلاقات الانتاج الزراعية شبه الاقطاعية والبطالة وكذلك سياسة الحكومات المتعاقبة في اهمال الريف العراقي، التي ادت الى افقار الفلاحين، اضافة الى ضعف علاقة الفلاحين بالارض، بسبب اصولهم البدوية، وافتقار الريف العراقي الى المؤسسات التعليمية والصحية والاجتماعية والاقتصادية، فان عوامل جذب عديدة دفعت النازحين الى الهجرة الى المدن منها امكانيات العمل وارتفاع مستوى المعيشة النسبي وتواجد المصانع والمعامل والخدمات والمؤسسات الاجتماعية والصحية والثقافية والترفيهية وغيرها.كما كان تشكيل الجيش والشرطة العراقية وبدايات التطور الاقتصادي والتجاري والصناعي قد ساعد على ارتفاع الطلب على الايدي العاملة الرخيصة او غير الماهرة.
غير ان استيعاب هذه الاعداد الكبيرة من النازحين من الارياف اصبح عبئا ثقيلا على المدن، مما دفع الى نمو مناطق سكنية في ضواحي المدن ويخاصة في العاصمة بغداد اطلق عليها quot; الصرائف quot; التي بنيت من الطين والقصب والصفائح الحديدية. ومن تلك الاحياء السكنية الرثة انطلق النازحون الى العاصمة بغداد للبحث عن اي عمل كان، وبالتالي الانخراط في حياة المدن شيئا فشيئا للعمل في الدوائر والخدمات وشركات البناء وفي البيوت وغيرها.
وبعد قيام ثورة 14 تموز عام 1958 حاولت الحكومة العراقية التخفيف من صعوبات السكن والحياة في الصرائف عن طريق دمج المهاجرين في المدن الكبيرة ومحاولة منع الهجرة من الريف الى المدن وذلك بالقضاء على الصرائف وبناء ضواحي جديدة على اطراف بغداد، حيث تسلم سكان الصرائف قطع ارض صغيرة وقروضا من البنك العقاري لبناء دور سكنية صغيرة لهم. وسرعان ما نمت مساكن شعبية عديدة على اطراف بغداد وامتلأت بكثافة سكانية عالية وتطورت الى مدن شعبية فقيرة، كمدينة الثورة (الصدر حاليا) شرق بغداد ومدينة الشعلة شمالي بغداد وغيرها.
وبالرغم من المحاولات المستمرة لمنع الهجرة الا ان نسبة المهاجرين لم تنخفض حتى بعد صدور قانون الاصلاح الزراعي لعام 1959 الذي لم تتهيأ له الظروف الكافية والمناسبة والرغبة في تطبيقه حيث واجهته تحديات وصعوبات ادارية وتنظيمية واقتصادية ـ سياسية حالت دون نجاحه بشكل جيد، وهو ما دفع الى انخفاض مستوى الانتاج الزراعي منذ السنوات الاولى لتطبيقه. وبذلك لم يحقق الاصلاح الزراعي اهدافه، وهو رفع مستوى المعيشة والهجرة المعاكسة الى الريف وكذلك وقف النزوح الريفي الى المدن.
ومن الطبيعي ان يجلب المهاجرون من الريف العراقي معهم قيمهم وعاداتهم واعرافهم وعصبياتهم العشائرية الى المدن والمحلات والطوائف، وهو ما ادى الى حدوث خلخلة في البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ونكوص تدريجي في الوعي الاجتماعي الحضري، وذلك لان اهل الريف اكثر احتفاضا بقيم البداوة وعاداتها وعصبياتها من أهل المدن، وأهل المدن المحاذية للبادية اكثر تأثرا بها من أهل المدن البعيدة عنها. كما ان معظم هؤلاء يتميزون بالمروءة والشهامة والكرم، ولكنهم يحملون، في ذات الوقت، مساوىء البداوة كالتغالب والعصبية والفخر وغيرها.
والحال ان هذه القيم ليست طارئة على مجتمعنا وانما هي نتيجة صراع وتفاعل طويل مع البيئة الصحراوية ونمط الانتاج الرعوي والثقافة البدوية، التي اثرت على نمط التفكير والعمل والسلوك. ومن الطبيعي ان تستمر هذه القيم من جيل الى جيل عن طريق اللغة والتربية والثقافة حتى بعد انتقال الفرد الى حياة الاستقرار والتحضر في القرى والمدن، وتظهر بين الحين والآخر في سلوكنا وتصرفاتنا اليومية.
وكان للنزوح الريفي الى المدن أثر كبير في نقل هذه القيم والاعراف والعصبيات الى الحياة المدينية. وتدل الاحصائيات على ان معدل النمو الحضري تجاوز الخمسين في المئة بكثير، في اكثر من نصف الدول العربية وارتفع في بعضها الى حوالي ستة وسبعين في المئة كما في بغداد.
ومن الطبيعي ان لاتستطيع المدن استيعاب هذه الاعداد الكبيرة من النازحين مما سبب نمو مدن واحياء شعبية هامشية في ضواحي المدن الكبيرة بصورة خاصة التي تعكس انطباعا بائسا في كثير من شروط الحياة الكريمة، وبالتدريج تتحول هذه الاحياء الشعبية الى مصدر قلق سياسي وتوتر اقتصادي وتأزم اجتماعي مستمر وتفرز مشاكل عدة بينها وبين الحكومة من جهة، ومع الاحياء الاخرى من جهة ثانية، وحيث تزداد حدة التوترات والاختلافات الاجتماعية والسياسية التي تجعل النازحين اكثر وعيا بواقعهم ويأخذون بكسر الحصار المفروض عليهم ويبدأون بانتهاز الفرص المناسبة للدخول في حياة اهل المدن ووظائفهم وخدماتهم ووسائل ترويحهم.