1-2


المذهب النقدي عند كانت
يعد كانت واحدا من ابرز الفلاسفة المثاليين الالمان ان لم يكن اعظمهم، الذي لعب دورا مركزيا هاما في تاريخ الفلسفة الحديثة، وفتح طريقا جديدا للمثالية الذاتية كما عند فشته، والمثالية الموضوعية كما عند شيلنغ والمثالية المطلقة كما عند هيغل، مثلما احدث انقلابا في نظرية المعرفة من خلال اعادة النظر في اشكالية العلاقة بين الذات والموضوع . والحال يتحدد الوعي الذاتي للانسان الحديث بتحقيق الذات ويبدأ بالشك، بحسب مقولة ديكارت (1650- 1596) quot;انا افكر اذن أنا موجودquot; Cogito ergo Sum، وبهذا يعرف الانسان بالعقل انه موجود. ولكن هل الامر هو كذلك في العالم الامبيريقي؟ وهل كل ما نعرفه عن العالم هو مجرد تجارب حسية متراكمة؟.
لقد حاول كانت ان يربط بين هذين الخطين الفلسفيين ويؤسسquot; المذهب النقديquot; Kritizismus ، الذي يقف وراء التساؤل الهام عن شروط امكانية التوصل الى المعرفة، وامكانية نقدها فلسفيا. وتؤطر هذين النقدين، نقد العقل العملي ونقد العقل الخالص مبادئ التنوير.
والحقيقة، بدون نقد المعرفة الذي وضعه كانت لا تكون للنظرية النقدية اهمية، ولهذا فهي تدين له بالامتنان.
لقد كان الفلاسفة التجريبيون يردون اصل المعرفة الى معطيات العالم الخارجي التي تأتي عن طريق الحواس، فيما كان الفلاسفة العقليون يردونها الى العقل. اما كانت فقد حاول التوفيق بين الاتجاهين، وان يتجاوزهما للبحث عن الاساس القبليapiriori لعناصر الحس والفهم وكذلك لجميع الاحكام والمقولات باعتبارها مفاهيم قبلية في الذهن، كما حاول توضيح الكيفية التي تتم بموجبها العلاقة بين عناصر الحس وعناصر الفهم، للتوصل الى مفاهيم جديدة للمقاربة بينهما، وهو ما عجزت عن تقديمه الفلسفات القديمة. وكان هدف كانت الاجابة على التساؤلات التي شغلت ذلك العصر، ومنها شروط المعرفة التي يمكن بواسطتها اقامة العلم الطبيعي، والى أي مدى يمتد نطاق المعرفة، في محاولة للوقوف على الشروط الذاتية، التي تجعل أية نظرية في مجال العلوم الطبيعية ممكنة.


مفهوم النقد الكانتي
يبدأ النقد عند كانت من الصعوبات التي تواجهها عملية الفهم، أي القدرة على اطلاق الاحكام. فالانسان يستقبل عن طريق الحواس مجموعة من المعطيات ثم تقوم ملكة الادراك باخضاع هذه المعطيات الحسية لنوع من التنظيم، ومعنى ذلك ان العقل الانساني ينطوي على مقولات قبلية تتولى عملية هذه المعطيات، لان ملكة الادراك لا تنتج الواقع بالفعل، وانما الواقع يظهر كما يبدو لنا أو أمامنا. وبهذا النقد احدث كانت قطيعة مع الفلسفات التي سبقته وفجر بذلك ثورة فلسفية لا تقل أهمية وخطورة عن الثورة السياسية في فرنسا التي أعلنت مبادىء حقوق الانسان .
اتخذ النقد عند كانت مفهوما خاصا وتضمن معنيين، حاول في الاول تقييم حدود العقل وامكانياته في حدود التجربة الحسية، وكان هدفه من ذلك هو الدفاع عن العلم ضد نزعة هيوم الحسية. وحاول في المعنى الثاني، تضمين العقل تقيما سلبيا يتجاوز حدود التجربة. ولهذا فان مفهوم كانت للنقد هو ديكارتي في روحه، لانه يؤكد على المشكلة المنهجية التي تخص وضع معيار محدد للمعرفة قبل الشروع بحل أية مشكلة فلسفية. وفي الوقت الذي هاجم فيه كانت موقف التجريبيين، لإلغائهم العقل، عندما حصروا المعرفة في نطاق الحواس فقط، هاجم العقليين ايضا لانهم وقفوا بالضد من التجريبين، عندما كفروا بالحواس وآمنوا بسلطة العقل المطلقة. وقد اتخذ كانت، في الواقع، موقفا وسطا، بين ما هو حسي وما هو عقلي، محاولا ، من خلال فلسفته النقدية، وضع العقل في مكانه الصحيح باعتباره قوة نشطة وظيفتها تنسيق الاحاسيس وتحويلها الى افكار. وبهذا جعل من العقل قوة خلاقة تحول التجربة المشوشة الى وحدة ذات معنى في الفكر المنسق.


الشيء في ذاته
يتسائل كانت: هل يدرك العقل حقيقة الاشياء كما هي أم يدرك ظاهرها؟. ويأتي جواب كانت حاسما: ان العقل لا يدرك من الاشياء الا ظاهرها فقط، اما الاشياء التي توجد مستقلة عنا- الشيء في ذاته quot;Ding an sichquot; فلا يمكن للعقل التوصل اليه، وبسبب بسيط هو اننا نعرف الشيء بعد ان يتحول الى فكرة. اما كيف كان هذا الشيء قبل ان يتحول الى فكرة فهذا لا يمكن معرفته. وعلى هذا الاساس اعلن كانت بان العلم والفلسفة سوف يصلان الى طريق مسدود اذا حاولا الوصول الى quot;الشيء في ذاتهquot;.
ان مفهوم النقد عند كانت يصبح سالبا، لانه حصر نطاق العلم في دائرة ضيقة هي عالم الظواهر، وفي ذات الوقت، قوض دعائم الميتافيزيقيا. كما ان نقد كانت السلبي هو الذي وضعه في مقدمة فلاسفة التنوير، بحيث ان هيغل استمد من نظامه الفلسفي المحكم قوانين الفكر المتماثلة مع قوانين الطبيعة.
استمد كانت افكاره من الفلاسفة الفرنسيين للقرن الثامن عشر، الذين سبقوه وبخاصة جان جاك روسو، وكذلك من الفلاسفة التجريبيين وبخاصة ديفد هيوم، الذين ايقضوه من رقاده quot;الدوغمائي quot; وكذلك من الفلاسفة العقلانيين، الذين حاولوا ارجاع المعرفة الموضوعية الى الذات ونظروا اليها نظرة دوغمائية، كما بدا ذلك في وعيهم العلمي انذاك، عندما اعتبروا ان شروط المعرفة الموضوعية هي مجرد شروط ذاتية. كما استمد فكره التنويري من الظروف الموضوعية التي سادت انذاك.


نظرية المعرفة
يقول تيودور ادورنو quot; ان كانت كان يدرك بان الذات لا تعرف سوى ذاتها، وهذه هي احدى خاصيات كانت، التي حاول بموجبها انقاذ المعرفة الموضوعية، من حيث انه جعل من المعرفة الذاتية نفسها، مقياسا للمعرفة الموضوعيةquot;. واذا قامت المعرفة الموضوعية على المعرفة الذاتية، فان الذات والموضوع، في هذه الحالة يصبحان متماثلين. فهل العلم المطلق للذات المطلقة هو في ذات الوقت، المعرفة الحقيقية والوحيدة في العالم الموضوعي الذي يحيط بنا؟
ان الهدف الاساسي او الجديد في فكر كانت هو في تحليله المعرفة الموضوعية ذاتها وانقاذها، والتي تبدو على شكل وعي علمي معطى. كما ينبغي على العلم، كنظام مؤسس عقليا ان يقوم بواجب هام وملح، هو ان يرث وظيفة الانطولوجيا، وان ينتج قوانين ترسم روح الطبيعة وان تحل محل النظام اللاهوتي القديم.
ان فكر كانت النقدي يقف بالضرورة ضد الدوغمائية ووظيفتها التبريرية، ويعكس في الحقيقة، الشرارة التي اشعلت الفتيل في فكر كانت الفلسفي الذي جمع بين التجريبية والعقلانية، في محاولة لاعادة تركيب العالم الموضوعي المهدم الذي يعرضه العقل الخالص.


نقد العقل العملي
لقد كان كانت واعيا منذ البداية، وحدد لنفسه الاجابة على التساؤلات التي شغلت تفكيره. ومع حذره الشديد فقد وضع أهمية كبيرة quot; للحدسquot; الذي تنتظم حوله منظومته الفلسفية التي طرح فيها الشروط القبلية للمعرفة النقدية. وللجواب على السؤال: ماذا يجب ان افعل؟. وضع كانت كتابه quot;نقد العقل العمليquot; الذي شرح فيه أهمية الاخلاق التي تتطلب quot;ارادة طيبةquot; مثلما تتطلب ان ينشط الانسان تبعا للواجب، بعد ان اخذ الفكر الفلسفي الجديد يضع العقل في المرتبة الاولى باعتباره مصدر الحق والعدالة وبعد ان اصبحت العدالة والحرية والسعادة مبادئ واهداف منشودة يسعى الناس الى تحقيقها، تلك المبادئ التي لم تنطلق من مقاصد فردية، بقدر ما كانت تنطلق من التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكذلك التطورات التي حدثت في الفكر الفلسفي والاجتماعي، وخصوصا عند رينه ديكارت(1596-1650) ذلك الفكر الذي ناضل ضد مبدأ التسلط الذي ساد في العصر الوسيط بصورة عامة. والحقيقة، فقد احدث ديكارت أول ثورة في الفلسفة الحديثة بعد ان اعلن quot; بان العلم الجديد سوف يكون اكثر وعيا وتقدماquot;.
ان مقولة ديكارت كانت بالفعل ما ميز تاريخ ذلك العصر الذي انتج فلسفة التنوير. كما تاتي اهمية ديكارت ليس في اقامته صرحا فلسفيا قويما فحسب، بل في تهديمه صرح الافكار القديمة والاحكام المسبقة التي قامت عليها. ولذلك يعد اول فيلسوف حرر الفكر الاوربي من اوهام الوصاية والتسلط.
كما كان جون لوك واحدا من المحاربين الكبار لتسلط الكنيسة. وقد اكد بانه لا يحارب العقيدة ذاتها، بقدر ما كان يحارب تسلط القيميين عليها، وان العقيدة ينبغي ان تخضع لحكم العقل وليس لحكم الكهانة. وفي ذلك الحين اصبح العقل الحاكم الاعلى، وعلى الانسان ان لا يكون خاضعا لاشكال التسلط الخارجي وانما لمقدراته الفكرية.
والواقع وقف كانت من المعرفة موقفا اكثر تقدما، فقد اعتبر المعرفة الموضوعية ليست مجرد معرفة ذاتية، وحاول فهمها من خلال تحليله للمعرفة الذاتية من جهة، وفهمه للمعرفة الموضوعية فهما اعمق من جهة اخرى، لأن أي عمل اخلاقي لا يمكن ان يقتصر على دوافع تجريبية، وانما عليه ان يرتفع الى مرحلة quot;الأمر المطلق، وهو التعبير العقلاني للعقل، الذي يقوم على مبدأ اساسي يحكم عمل الانسان بارادته التي هي quot;قانون عام للطبيعةquot; وبحكم هذا القانون يصبح الاحترام الفضيلة الاخلاقية الرئيسية. ومن اجل ان يعمل quot;العقل العمليquot;على نحو افضل ويصل الى الخير الكامل، عليه ان يستتبع مسلمات ثلاثة هي: خلود الروح والحرية والله .يتبع .