فكرة الوطن البديل لدى اليمين الإسرائيلي ليست جديدة فهي تكاد تكون من عمر الدولة الإسرائيلية، إذ حاول هذا اليمين إيجاد حل دائم للقضية الفلسطينية عبر استنساخ نموذج عربي من تجربة إقامة الدولة الإسرائيلية التي قامت على أنقاض الوطن القومي التاريخي للشعب الفلسطيني من خلال ادعاء (وطن بلا شعب لشعب بلا وطن) القائم على خلفية رسالة أو وعد بلفور وزير الخارجية البريطاني في الثاني من نوفمبر عام 1917، الذي أرسله إلى الزعيم اليهودي البريطاني اللورد ليونيل روتشيلد واعدا بأن حكومة الجلالة البريطانية سوف تسعى إلى (تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين)، وهو الوعد الذي تحقق بعد 31 عاما في مايو 1948. وفكرة الاستنساخ هذه تقوم على أكذوبة أن (لا دولة فلسطينية غرب النهر، لأن الدولة الفلسطينية قائمة أساسا شرق النهر) أي في المملكة الأردنية الهاشمية التي عمرها سابق لتأسيس دولة إسرائيل ب 28 عاما، فهي دولة عربية تأسست أثناء الثورة العربية الكبرى على الاحتلال العثماني الذي كان يسيطر على غالبية العالم العربي، ومن المعروف تاريخيا أن هزيمة الرجل المريض (تركيا) في الحرب العالمية الأولى وأثناء الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف الحسين بن علي، أعقبها تشكيل جديد لخريطة المنطقة العربية نشأت عنه دول عربية عديدة مستقلة مثل سوريا والأردن والعراق وفلسطين ولبنان والكويت وقطر، وكان الأردن قبل ذلك جزءا من ولاية دمشق، والدولة السورية الحالية كانت تتكون من ولاية دمشق وولاية حلب، والعراق يتكون من ولاية البصرة وجزء من ولاية حلب، أما فلسطين ولبنان فكانا معا يسميان ولاية بيروت، أما دولتي الكويت وقطر فكانتا أقضية تتبع ولاية البصرة، وهذا يعني تاريخيا وواقعيا أنه لا يمكن التشكيك في طريقة نشأة وتكون أية دولة عربية، فأغلبها تاريخيا نتاج التشكيل الجديد الذي قام به تخطيط سايكس بيكو الذي أعقب هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، تلك الهزيمة التي قامت الثورة العربية الكبرى بدور فاعل فيها.

العزف على أوتار المنابت والأصول
وتعتمد تلك الأكذوبة الإسرائيلية على أن نسبة من سكان الأردن من أصول فلسطينية نتيجة توحيد الضفة الغربية مع إمارة شرق الأردن عام 1950 ليؤسسا معا المملكة الأردنية الهاشمية، و أيا كانت هذه النسبة فهي بكل المقاييس لا تصمد لتأسيس دولة فلسطينية، لأن اعتماد هذا القياس يعني تقسيم فعلي للعديد من الدول ومنها الولايات المتحدة الأمريكية وسويسرا وكندا، حيث يعيش في كل منها أكثر من عرق وأصل، ويبلغ بعضها أكثر من مجموع سكان المملكة الأردنية الهاشمية، لذلك كان المرحوم الملك حسين يؤكد دوما في أغلب خطاباته على أنّ (الأردن وطن الأردنيين بغض النظر عن منابتهم وأصولهم)، وذلك هو المقياس الأخلاقي الذي اعتمدت عليه قوة الكيان الأردني وديمومته رغم كل المؤامرات التي واجهها في القرن الماضي، لأن تنوع المنابت والأصول في المملكة دليل على حيوية وتآلف لا يستطيع واحد من أي أصل أنّ يدعي أنه أردني وغيره ليس أردنيا أو أنه أكثر انتماء للأردن من غيره خاصة أن غالبية أجيال هذه المنابت و الأصول التي تشكل الآن غالبية سكان المملكة ولدت في الأردن. إن الذي ولد في المملكة الأردنية عام 1950 عمره الآن ستون عاما، ومن المؤكد أيا كان أصله فقد ولد له على الأقل جيلين، ولبعض هذين الجيلين ولدت أجيال، فمن منهم يستطيع القول أنه أردني وغيره غير أردني؟.

هل يقبل الفلسطينيون دولة خارج وطنهم التاريخي؟
الطرف الأول والأساسي في فزاعة الوطن البديل هو الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية الذي يبلغ تعداده حوالي أربعة ملايين نسمة، واللاجئون الفلسطينيون في المنافي العربية والأجنبية وهم حوالي سبعة ملايين، فهذه الملايين الفلسطينية تسعى كحد أدنى لقيام الدولة الفلسطينية ضمن حدود عام 1967 كما أعلنها المجلس الوطني الفلسطيني عام 1988 في دورته بالعاصمة الجزائرية، وكي تقوم هذه الدولة الآن شرق نهر الأردن أي في المملكة الأردنية الهاشمية، فهذا يتطلب موافقة هذه الملايين الفلسطينية على الفكرة أولا ثم تهجيرهم لشرق النهر ثانيا، فهل يقبل أي عاقل أو مجنون منهم هذا الحل التطهيري الذي لا يعني سوى أنه شعب خائن بكامله كونه وافق على التنازل عن وطنه التاريخي مقابل قيام دولة له على أرض و وطن شعب آخر؟. هل يقبل أي فلسطيني إعادة استنساخ الفكرة البلفورية التي نهبته وطنه لإقامة دولة لشعب آخر ويوافق على قيام وطنه الفلسطيني على أرض ووطن شعب آخر هو الشعب الأردني الشقيق؟.

الجواب القاطع غير القابل للنقاش
هو مليون لا كبيرة وصريحة وواضحة وغاضبة، لأن شعبا يصرّ على تنفيذ حقه في العودة لوطنه تنفيذا لقرار الأمم المتحدة رقم 194 لعام 1948 ، لن يقبل بأي وطن بديل لا في غرب النهر في المملكة الأردنية الهاشمية ولا في أية بقعة في العالم حتى لو كانت امتدادا للجنة أو مدينة أفلاطون الفاضلة، لأن الفضيلة هي التمسك بالحق في الوطن القومي التاريخي ولو عبر حل دولتين لشعبين كما ترى غالبية الشعب الفلسطيني وأنصار السلام من الشعب الإسرائيلي أيا كانت نسبتهم.

وهل يرضخ الشعب الأردني؟

ولدحض أية احتمالية لتنفيذ فكرة الوطن البديل من المهم السؤال عن موقف الشعب الأردني في المملكة الأردنية الهاشمية لأنه هو الطرف الثاني في مشروع الفكرة، وفي جدلية حالة موافقة الطرف الأول وهو الشعب الفلسطيني، فالسؤال المنطقي هو: هل يرضخ الشعب الأردني لهذا المشروع غير الأخلاقي؟. أعتقد لدرجة ترقى لحد اليقين المطلق أن هذا الشعب لن يرضخ ولن يقبل هذا المشروع لسببين أساسيين:
الأول: لأنه كشعب عربي أصيل بكل منابته وأصوله، الشعب وارث الثورة العربية الكبرى التي أسهمت في الخلاص من الاحتلال العثماني واستقلال العديد من الدول العربية، لن يقبل مطلقا بالتنازل عن الحق التاريخي العربي في فلسطين حتى لو وافق الشعب الفلسطيني أو قطاعات وتيارات منه، وأعتقد أن هذا سيكون موقف كافة الشعوب العربية، التي لن تقبل بأقل من دولة فلسطينية مستقلة معترف بها ضمن حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية لما لها وفيها من إرث عربي إسلامي عند كافة الشعوب العربية والإسلامية.

الثاني: لأنه شعب عريق في المقاومة دفاعا عن حقوقه، فالتاريخ الأردني حافل بمحطات تاريخية نضالية لا يمكن تجاوزها، ومنها تلك المحطات المهمة التي قادها وخطط لها اللواء العسكري المشهور علي خلقي الشرايري (مواليد مدينة إربد عام 1878) و كان قائدا عسكريا بارزا في الجيش العثماني، قاتل في العديد من الجبهات في القوقاز واليمن وليبيا، وعند اندلاع الثورة العربية الكبرى كان حاكما عسكريا لمدينة مكة المكرمة، وبناءا على اتصالات الشريف حسين، أعلن انضمامه للثورة مقنعا العديد من الضباط العرب لدعم الثورة للخلاص من نير الاحتلال التركي الذي مارس أبشع أنواع القمع والقتل والاضطهاد ضد العرب في كافة أقطارهم الواقعة تحت احتلاله. وكان أيضا ممن قادوا عمليات المقاومة في حوران ضد الاحتلال الفرنسي، ولعب دورا بارزا مؤثرا في مؤتمر أم قيس (أيلول 1920) الذي أكد على ضرورة قيام الدولة الوطنية المستقلة، لذلك ربطته علاقة قوية مع الملك المؤسس عبد الله، وكان وزير الأمن في أول حكومة أردنية التي ترأسها الزعيم اللبناني رشيد طليع في تموز 1921. وتشكيل المواطنين العرب غير الأردنيين لحكومات أردنية على مستوى رؤساء وزارات ووزراء ظاهرة ملفتة للنظر في تاريخ الحكومات الأردنية منذ عام 1921، مما يعني تجذر النزعة القومية عند الشعب الأردني الذي لا يهمه إن كان رئيس الوزراء لبنانيا مثل المواطن اللبناني رشيد طليع (1921)، وعقب ذلك المواطنين السوريين مظهر رسلان و حسن خالد أبو الهدى، والمواطينن العراقيين رشيد المدفعي و علي رضا الركابي وغيرهم العديد من الوزراء والمسؤولين.

وضمن نفس المشهد الأردني المقاوم
لا يمكن نسيان الشيخ كايد مفلح العبيدات الذي كان أول شهيد أردني (1920) على التراب الفلسطيني في زمن الانتداب البريطاني. وأيضا البطولات التي أبداها الجيش العربي الأردني في معركة الكرامة مع الاحتلال الإسرائيلي في عام 1968، وهي بطولات وصمود مذهل أوقع خسائر جسيمة في صفوف الجيش الإسرائيلي حسب الشهادات الإسرائيلية. هذا الشعب الأردني الذي يتشكل من العديد من المنابت والأصول التي انصهرت في شعب عربي واحد صفته أردنية، هل يقبل من أي طرف فلسطيني أو عربي أو إسرائيلي أو دولي، محو وطنه المملكة الأردنية الهاشمية لقيام دولة بديلة مكانها أيا كان اسمها ولأي شعب مهما كان اسمه وأصله؟. الجواب قطعا مليون لا وسوف يقاوم هذه الفكرة بكل ما يملك وسط رضا وقناعة كل الأردنيين أيا كانت منابعهم وأصولهم، فالولاء للوطن وليس العرق والأصل، هذا الوطن الذي احتضن الأجداد منذ مئات السنين ليخلفوا أجيالا أردنية لا تعرف الولاء لغير الأردن أرضا ووطنا و قيادة. وكنتيجة لما سبق من وقائع تاريخية وميدانية، فإن فكرة الوطن البديل لا يمكن تحقيقها أيا كانت القوى التي تقف حولها، لأن الشعب الفلسطيني من المستحيل أن يتنازل عن دولته المستقلة على وطنه التاريخي وعاصمتها القدس. والشعب الأردني لن يرضخ لهذه الفكرة غير الوطنية وسوف يقاومها بكل ما يملك من وسائل وإمكانيات.

ولتأصيل هذا الانتماء الأردني الأصيل،
لا بد من تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية وتوسيع مجالات الأفق الديمقراطي المتحقق واقتلاع جذور الفتنة الإقليمية التي أطلت برأسها العفن في ألأسابيع الأخيرة عبر العديد من وسائل الإعلام.... كيف يمكن ذلك؟ هذا هو موضوع الحلقة الثانية من هذه المقالة.
[email protected]