الحلقة الأولى

2-2

شخصية الفرد العراقي

من اجل فهم اطروحة على الوردي وافكاره الاجتماعية نستعرض أولا وبايجاز فرضياته السوسيولوجية الثلاث التي تشكل المقومات الرئيسية لنظريته وهي:
اولا ndash; شخصية الفرد العراقي
ثانيا ndash; الصراع بين القيم البدوية والقيم الحضرية
ثالثا ndash; التغير والتناشز الاجتماعي
ان هذه الفرضيات الثلاث ترتبط معا بعلاقة جدلية ويجب اتخاذها كثلاثة اوجه لمعضلة سوسيولوجية واحدة تمتد جذورها الى نظرية ابن خلدون حول الصراع بين البداوة والحضارة, التي طرحها في كتابه quot; دراسة في طبيعة المجتمع العراقيquot; عام 1965.
ويجب الاشارة هنا الى ان كل فرضية من هذه الفرضيات تأثرت بعالم من علماء الاجتماع. فقد تأثرت فرضيته الاولى بعالم الاجتماع الامريكي مكيفر, والثانية بالعالم العربي المشهور quot; ابن خلدونquot; والثالثة بعالم الاجتماع الامريكي اوجبرن.

ازدواج الشخصية

كانت الفرضية الاولى باكورة اعمال الوردي التي قدمها في محاضرة القاها في بغداد عام 1950 حول شخصية الفرد العراقي, التي اثارت سجالا علميا واسعا في الاوساط الثقافية انذاك, وشكلت محاولة اولية لتفسير quot;طبيعةquot; المجتمع العراقي في ضوء ظاهرة quot;ازدواج الشخصيةquot; كظاهرة اجتماعية وليست نفسية باعتبارها نتاج وقوع المجتمع العراقي تحت تأثير نسقين متناقضين من القيم الاجتماعية, بحيث يضطر بعض الافراد للاندفاع وراء نسق قيمي تارة ووراء نسق قيمي آخر تارة ثانية. وهذا، حسب الوردي, مصدر التناقض والصراع في شخصية الفرد العراقي وازدواجيتها، حيث اشار الى ان الفرد العراقي من اكثر الناس هياما بالمثل العليا ولكنه في الوقت نفسه, من اكثر الناس انحرافا عنها في واقعه الاجتماعي.

ان ازدواج الشخصية كمفهوم اجتماعي هو غير الازدواج من الناحية النفسية , كمرض يصيب بعض الافراد ويسبب شذوذا في تكوين الشخصية, فازدواج الشخصية ظاهرة اجتماعية من الممكن ان تظهر في كل المجتمعات وتعكس صراعا في القيم الاجتماعية.
ويظهر الصراع في نشاط الافراد وسلوكهم وافعالهم وممارساتهم للقيم والعادات والتقاليد والطقوس التي تلونها المعايير الاجتماعية. وهذا النموذج من quot;ازدواج الشخصية quot; نموذج جمعي وليس فرديا, ويمثل نوعية موجودة تلعب دورا مهما في الحياة الاجتماعية. انها ليست شخصية العامل والفلاح والموظف فحسب بل هي ايضا شخصية التاجر والعسكري والمثقف. وهي نمط لسلوك ثقافي -اجتماعي- قيمي, استمده الوردي من عامة الشعب بافراده المختلفين والمتنوعين الذين يعكسون في سلوكهم قيما اجتماعية متناقضة تختفي احيانا في اقوالهم, غير انها سرعان ما تكشف عن نفسها في سلوكهم في الواقع العملي.

مظاهر الازدواجية

استعان الوردي, بذكاء, بمقدمات تاريخية لتوضيح هذه الازدواجية بكل تناقضاتها, من خلال دراسته العلاقات الاجتماعية السائدة وتشخيص مكوناتها ودوافعها واثارها على سلوك الفرد. كما استعان بالتراث العربي- الاسلامي في العراق, حيث وصف اهل العراق بـ quot;اهل الشقاق والنفاقquot; وهذه الصفة ليست اصيلة فيهم وانما هي وليدة ظروف اجتماعية, تاريخية وسياسية معينة.
ومن العوامل المهمة لهذا الصراع ميل اهل العراق الى quot;الجدلquot;, الذي طبع التراث الفكري في العراق quot;بطابع مثاليquot; بعيدا عن الواقع الملموس فعلا, ولهذا ظهرت هوة بين التفكير وبين الممارسة العملية. فبينما كان المفكرون والفقهاء يجادلون بالادلة العقلية والنقلية, كانت الفرق والطوائف المختلفة تتقاتل في ما بينها. ويبدو ان هذه النزعة الجدلية ما تزال قوية في العراق حتى اليوم.
لقد ظهر مثل هذا الصراع لدى العراقيين خلال حكم الامويين والعباسيين وكذلك العثمانيين. غير ان quot; ازدواج الشخصيةquot; اصبح اليوم اكثر انتشارا بين فئات المجتمع العراقي, لا سيما بين المتعلمين منهم. حيث لاحظ الوردي بان كثيرا من المتعلمين حفظوا الافكار والمبادئ الحديثة ورفعوا الشعارات البراقة وتحمسوا لها ودافعوا عنها وانتقدوا كل من خالفها, لكنهم في الوقت نفسه, لم يطبقوها, بل خالفوها بانفسهم كل يوم في حياتهم العملية, بصورة شعورية او لا شعورية. فهم يذمون القبلية والعصبية العشائرية والطائفية ولكنهم يمارسونها في حياتهم اليومية، ويدعون الى مقاطعة البضائع الاميركية والصهيونية ولكنهم يندفعون لشراءها، ويرفعون شعار الوطنية ولكنهم يهربون من خدمة العلم.
كما تظهر الازدواجية في ظاهرة quot;الوساطةquot; وquot;الرشوة quot;حيث يدعو البعض الى المساواة بين المواطنين وعدم التفريق بينهم ولكنهم، في الوقت نفسه, يحترمون الوسطاء وأولي النفوذ فيتقربون اليهم ويمدحونهم حين يحتاجون اليهم او حين يقومون بالتوسط لديهم, مع العلم ان المبدئين متناقضان.

ومع ذلك يشير الى ان الناس ليسوا كلهم على درجة واحدة من ازدواج الشخصية, وان هذا الازدواج يظهر في المدن اكثر من الريف, وهو نادر في البادية, ويعود ظهوره في المدن الى التربية التقليدية التي تكثر فيها المواعظ والتي تتناقض مع الواقع الاجتماعي المعيش. ومثال على ذلك ظهور الازدواجية في الاغنية العراقية المطبوعة دوما بالحزن والالم والمملوءة بالعتاب والشكوى وخيبة الامل. فالفرد العراقي يتعارك ويتشاتم ويتحدى, ولكنه سرعان ما يكون مستضعفا وسلبيا حين يشرع بالغناء. ويبدو ان المرأة في العراق لا تختلف عن الرجل في هذا المجال, فهي تربي اطفالها على هذا النمط من السلوك المزدوج, وبهذا فان التربية الاجتماعية تعلم الفرد ان يكون quot;اسداquot; مرة وquot;ارنباquot; مرة اخرى
وقد اكد الوردي على ان هذه الازدواجية هي ظاهرة اجتماعية وليست نفسية وخاصة بالانسان وانها صنيعة من صنائع المجتمع الذي يعيش فيه الفرد. كما انها لا تنطبق على جميع افراد المجتمع العراقي بنفس الدرجة. فهي تنطبق على اهل المدن اكثر من الريف وعلى اهل الريف اكثر من اهل البادية.

والسؤال الذي يطرح نفسه:
هل انجز الوردي نظرية متكاملة حول شخصية الفرد العراقي وقدم اجوبة شافية لتشخيص عوامل الخلل في المجتمع والثقافة والشخصية؟
والحال، بالرغم من المآخذ القليلة التي وجهت الى فرضيات علي الوردي حول شخصية الفرد العراقي وتحليلاته للصراع بين قيم البداوة وقيم الحضارة وازدواجيتها وتناشز سلوكها وتأثيراتها غير المباشرة على المجتمع، فانه يبقى المفكرالاجتماعي التنويري النقدي الأكثر عطائا وتأثيرا، الذي ترك لنا ثروة فكرية واجتماعية علمتنا ان نتعرف على ذاتنا وان ننتقدها قبل ان ندافع عنها او نجلدها. وقد آن الاوان ان نعي ذاتنا بعد الازمات والمحن والحروب والحصار والاحتلال الغاشم وان ندرك مدى ما خلفته من تفكك وعجز واستلاب اجتماعي ونفسي وسياسي وما افرزته من تشوه واغتراب, مما سهل استلاب حرية العراقي واهدار دمه واستباحة ارضه واهانة كرامته, وليس امام العراقيين سوى طريق واحد هو ان يستعيدوا وعيهم المستلب ويقفوا على ارجلهم من جديد وان يتوحدوا تحت هوية وطنية واحدة ثم يبدأوا بتغيير انفسهم اولا, ثم بتغيير الآخرين, وليس ذلك بمستحيل.


المصادر:
علي الوردي، شخصية الفرد العراقي، بحث في نفسية الشعب العراقي على ضوء علم الاجتماع الحديث، مطبعة بغداد 1951
ابراهيم الحيدري، علي الوردي- شخصيته ومنهجه وأفكاره الاجتماعية، دار الجمل، كولون 2006