سؤال الهوية بات من الاسئلة المطروحة فى اميركا بعد التغيرات الكبيرة التى اجتاحت الدولة الأميركية فى العقود الأربعة الاخيرة، وخاصة فى العقدين الاخيرين.
أهم التغييرات التى اجتاحت أميركا يمكن تلخيصها فى تراجع ثقافة وقيم الواثب (WASP) أى فى قيم quot; البيض الانجلو ساكسون البروتاستانتquot;، وقد طرح النقاش عالم السياسة الراحل صامويل هانتنجتون فى كتابه الذى صدر عام 2004 بعنوان quot; من نحن؟ التحديات بالنسبة لهوية أميركا الوطنيةquot;، وكان يحذر من تزايد اعداد القادمين من أميركا الجنوبية مع ثقافتهم المنعزلة على قيم وتجانس المجتمع الأميركى، وهناك عشرات الدراسات الأخرى التى بدأت تتناول موضوع الهوية الأميركية بعضها من منطلق قلق على تغيرات سلبية اجتاحت أميركا وبعضها يرى إنها تحولات إيجابية وتطورات نحو الافضل.
ويمكن تلخيص ملامح هذا التغيير باختصار فى عدد من السمات الرئيسية:

اولا: التحول من بوتقة الانصهار إلى التعدد الثقافى
كان الأباء المؤسسين للأمة الأميركية يخططون ويعملون وفقا لمفهوم بوتقة الانصهار، أى استيعاب المهاجرين الجدد فى الثقافة الاميركية وأمركتهم على وجه السرعة، وكانوا يثقون فى إمكانية الثقافة الأميركية على استيعابهم إن لم يكن فى الجيل الاول فالمؤكد سيكون فى الجيل الثانى أو الثالث، وكما يقول جيمس كورث من معهد أبحاث السياسة الخارجية quot; كانت الأمركة بالنسبة للمؤسسين وأجيال عديدة لاحقة،جزءا أساسيا وجوهريا من الدستور الواقعى للأمة الأمريكية وحضارتها ولمكانة أميركا فى الحضارة الغربية الوسعةquot;.
التطور الجديد فى الحالة الأميركية هو التعدد والتنوع الثقافى الممتد والمتوارث عبر الاجيال، واصبحنا نرى القادمين من اميركا الجنوبية فى الجيلين الثانى والثالث لا يتحدثون الانجليزية وخلقوا مناطق شبه مغلقة عليهم لا يتحدثون فيها إلا الاسبانية، واصبحت اللغة الاسبانية لغة ثانية فى المجتمع الاميركى مع تزايد عدد الناطقين بها لما يقرب من الاربعين مليونا، حتى حدث العكس وهو أن ملايين الأميركيين يدرسون الاسبانية من آجل التحدث والتفاعل مع هذه الكتلة البشرية الضخمة، وكذلك هناك الصينيون والروس والعرب، وبالاضافة إلى الجيتوهات اللغوية هناك أيضا الجيتوهات الدينية من الكاثوليك والمسلمين والهندوكيين... وبالتأكيد قد أثر ذلك بالسلب على تجانس أميركا وعلى ثقافة الواثب وعلى القيم الاخلاقية للوثب، فمعظم السلبيات فى السلوك وفى الاخلاق الأميركية قادمة مع المهاجرين المحملين بثقافة تتسامح مع الفساد والرشوة والكذب ونقص الأمانة. ورغم أن هناك من يثنى على هذه التعددية فأن البعض الآخر يراها خطرا على تجانس المجتمع وعلى تواصل البشر وعلى الانحيازات فى العمل وفى المؤسسات وفى احترام القانون.

ثانيا: تراجع تركيز التعليم على قيم الحضارة الغربية للتركيز على قيم التعددية
هناك من يرى أن هذه التعددية الثقافية قد اثرت بشكل سلبى جدا على العملية التعليمية، حيث بات التعليم مشغولا بالحديث وتدريس هذه التعددية الثقافية الهائلة، وفى المقابل تراجع الحديث عن قيم التقدم وعن قيم الحضارة الغربية وعلى الأسس الأخلاقية التى دشنتها هذه الحضارة العظيمة، بل أن الانشغال الكبير فى التركيز على قيم هذا التنوع الثقافى والعرقى والدينى جاء على حساب العلوم الطبيعية ذاتها وعلى حساب التقدم العلمى أيضا، ومن ثم تراجعت المدارس العامة، التى تدرس للتلاميذ فى المرحلة قبل الجامعية كثيرا من الناحية العلمية والتعليمية، وعلى الطلاب التخصص بشكل أكثر فى التعليم الجامعى وما بعد الجامعى من آجل التركيز على هذه القيم العلمية المتراجعة فى التعليم قبل الجامعى.

ثالثا: تراجعت الأمركة فى مواجهة العولمة
بالتأكيد فأن الأمركة قد اثرت بشكل كبير جدا فى العولمة حتى كادت العولمة تماثل الأمركة فى البدايات، ولكن مع تطور العولمة ودخول اطراف دولية عديدة كلاعبين فاعلين فيها مثل الصين والهند واليابان والبرازيل وكوريا الجنوبية، تراجعت الأمركة فى مواجهة هذه العولمة وتراجعت الحضارة الغربية فى مواجهة الحضارة العالمية الواسعة، ويسرى ذلك على الاقتصاد كما يسرى على السياسة كما يسرى على منظومة القيم الاجتماعية والأسرية.


رابعا: تراجع القيم المسيحية فى مواجهة قيم الحرية المفرطة
من المعروف أن أحد الروافد الرئيسية للحضارة الغربية هى قيم الديانة المسيحية، وقيم الديانة المسيحية لا تعنى حكم الدين ولا المرجعية الدينية، وقد بدأ تراجع القيم المسيحية فى الحضارة الغربية بعد إساءة استخدام الدين وتداخله فى السياسة إزاء حكم رجال الدين فى العصور المظلمة المسيحية، فجاء التنوير ليضئ الانوار بعد عصور الظلام المسيحى ولهذا سمى تنويرا، وقد جرف فى طريقه ركام هذه الدولة الدينية، وجاءت ثورة الحقوق والحريات والتى توجت بالعولمة لتضرب فى مقتل كثير من القيم المسيحية والاسرية التى تأسست عليها الولايات المتحدة الأميركية، وبناء على ذلك تراجعت القيم الاسرية وزاد الطلاق، وجاء زواج المثليين وحقوقهم الخاصة، وحقوق الاجهاض المفرط ليضرب كثير من هذه القيم فى مقتل، وحتى مفهوم الليبرالية تغير، فالليبرالية قديما كانت تركز على التخلص من مساؤى الديكتاتورية والحكم الدينى وكافة انواع الاستبداد، ولكن مفهوم الليبرالية حاليا فى اميركا بات مرتبطا بالدفاع عن حقوق المثليين وزواجهم وحقوق المرأة فى إجهاض نفسها فى أى وقت، ومناهضة العولمة وعدم الايمان بالدولة وبالفوضى فى بعض الاحيان. وطبعا هذا يختلف عن ما هو كائن فى الشرق الأوسط حيث مازالت الليبرالية تعنى مناهضة الحكم الدينى والاستبدادى والدفاع عن القيم الاساسية فى الحرية والمساواة والتى لم تنجز بعد فى هذا الشرق.

خامسا: تراجع حكم النخبة
جزء من التفكير المؤسسى فى اميركا هو أن النخبة هى الاصلح للحكم من العامة، فكان جيفرسون يعتبر أن الشعب يجب أن يحكم من قبل أرستقراطية طبيعية تعتبر هى الأفضل، أما هاميلتون فكان أكثر تطرفا ويرى أن الشعب يجب أن يحكم من قبل الغنى الكريم الأصيل، وكان هناك فكر يرى أن المساواة لا تعنى تساوى كل الناس وأنما الفرص المتساوية والمتكائفة للجميع، وتبقى النخب متميزة وظاهرة لأنها تملك من الكفاءة أو الاصالة ما هو غير متوفر لغيرها.... ولكن حدث تراجع كبير فى هذا التفكير لصالح الاكثر قدرة على أقناع الجماهير بأنه الاكفأ للحكم، ولهذا أيضا تراجعت قيود الترشيح داخل الاحزاب وتوج ذلك مؤخرا بفوز أوباما بالحكم فى لحظة تاريخية مفصلية فى التاريخ الأميركى والعالمى.

سادسا: تراجع اعداد البيض
كل هذه العوامل بالطبع، بالإضافة إلى التدفق المستمر للهجرة لأميركا قد أدت إلى تراجع نسبة البيض فى الخريطة السكانية الأميركية ليصلوا إلى 72% من تعداد السكان فى الاحصاء القومى الاخير لعام 2000، ومن المتوقع تراجع النسبة فى احصاء 2010،فالعولمة سرعت الهجرة، وفتح أبواب الهجرة سرع من ظهور العولمة، وكلاهما أثر سلبيا فى نسبة البيض إلى مجمل السكان. كما أن تناقص أعداد البيض بدوره أثر فى القيم الأمريكية وفى قيم المسيحية البروتستانتية... ونظرا لأن تراجع البيض مستمر لاستمرار الهجرة وأيضا لأرتفاع معدل المواليد بين المهاجرين من اميركا الجنوبية وبين الاسيويين ومن الدول الإسلامية وباقى الدول عن معدل النمو فى مواليد البيض، فان المزايد من التراجع فى منظومة القيم الأميركية والتى تأسست على أيدى الواثب فى طريقها للتراجع وربما للإختفاء.
[email protected]