هناك زعماء يقودون وهناك زعماء ينقادون. الزعيم الحقيقي من يقود الشارع ولا يترك الشارع يقوده. الملك عبدالله الثاني من الذين يقودون. إنّه يقود الأردن في بحرهائج ليس ما يشير إلى أنّه سيستعيد هدوءه قريبا. هذا البحر هو المنطقة كلّها التي تمرّ في حال مخاض وتبدو في حاجة أكثر من أي وقت إلى قادة حقيقيين يؤمنون بالرسالة التي يؤدونها بعيدا عن الشعارات البراقة التي لا تطعم خبزا.
&كان عبدالله الثاني مرّة أخرى، ربّما للمرّة الألف، صادقا، كعادته. كان صادقا مع الأردنيين. كان في الواقع صادقا مع نفسه أوّلا، أي مع ما يسعى من أجله تحقيقه، أي تأكيد أن للمملكة الأردنية الهاشمية "دورا محوريا على الصعيد الأقليمي" وأنّها دولة عصرية تستأهل الحياة، لأنّها دولة تمتلك مؤسسات راسخة. أكثر من ذلك، يؤمن العاهل الأردني بأن المملكة تمتلك رسالة. لذلك توجه إلى الأردنيين مباشرة، قبل أيّام قليلة، لتأكيد ما لم يعد في حاجة إلى تأكيد.
أكّد عبدالله الثاني للأردنيين "إننا نعيش حياتنا مجتمعا متآخيا ومتراحما مثل العشيرة الواحدة ونبني مستقبلنا بتحصين أجيالنا بفكر حضاري مستنير ضد الإنغلاق والتعصب وتسليحها بقيم المواطنة والمبادرة والطموح والتميّز وحبّ العمل والإنجاز ونبذ مظاهر العنف التي تجافي قيمنا وأخلاقنا وكلّ ما يمثّلها. فجوهر عقيدتنا قدسية الحياة واحترام الذات والغير".
نعم، قدسية الحياة. هذا ما يؤمن به الأردن. الأهمّ من ذلك كلّه أن يوجد من يتحدّث صراحة عن هذه القدسية وليس عن قدسية شيء آخر، أي قدسية ثقافة الموت التي ينادي بها المتعصّبون في المنطقة الذين يراهنون على اثارة الغرائز بكلّ أنواعها، خصوصا الغرائز المذهبية التي خربت العراق وخرّبت سوريا وتكاد أن تخرّب لبنان.
يقف الأردن حاجزا منيعا في وجه التطرّف. هذا ما أراد عبدالله الثاني تأكيده للأردنيين. أراد أن يقول لهم أن الحرب على الإرهاب طويلة، لكنّ الأردن لا يمكن إلّا أن ينتصر في هذه الحرب.
كات لا بدّ من إعادة تذكير الأردنيين بوجود الدور الأردني. كان لا بدّ من إعادة تذكيرهم بأنّ هذا الدور في التصدي للإرهاب والفوضى لم يأت من عبث. على العكس من ذلك، إنّه دور طبيعي جاء نتاج تجارب عدّة مرّت بها المملكة استطاعت تجاوزها. من هذا المنطلق، يحقّ للملك أن يقول لأبناء الشعب الأردني: "أؤكد لكم أنّ الأردن قويّ وصامد بثبات على مرّ العقود في وجه كل من راهن على سقوطه. إنّ قوتنا ودورنا المحوري في المنطقة ليسا صدفة، بل هما من صنع الأيدي الأردنية". يضيف: "نحن أقوياء بوحدتنا في محيط يموج بالصراعات والنزاعات الطائفية والعرقية وفوق كلّ هذا الإرهاب".
لا يمكن للأردن التراجع في الحرب على الإرهاب. إنّها معركة حياة أو موت للمنطقة كلها. ما يدعو إلي التفاؤل أنّ الأردن يعرف ماذا يريد ويعرف ما هي القيم التي يستند إليها في المعركة التي يخوضها مع "داعش" والدواعش. هناك "داعش" السنّية وهناك الدواعش الشيعية التي في اساسها الإستثمار في الغرائز المذهبية. كان عبدالله الثاني أوّل من سارع إلى التحذير من هذا النوع من الإستثمارات، مباشرة بعد الإحتلال الأميركي للعراق وإنكشاف ادارة بوش الإبن التي سلّمت هذا البلد العربي المهمّ على صحن من فضّة إلى ايران.
&تحدّث العاهل الأردني قبل ما يزيد على عشر سنوات، كان ذلك في تشرين الأوّل ـ اكتوبر من العام ٢٠٠٤، عن "الهلال الشيعي" بالمفهوم السياسي السياسي للعبارة وليس الديني لأنّ الشيعة تشيعوا لأهل البيت الذين ينتسب إليهم الملك عبدالله الثاني.
لم يقصد أي إساءة للشيعة. على العكس من ذلك، كان الهدف التحذير من السياسة التوسعية لإيران في ضوء سيطرتها على العراق. الآن، لم يعد& أي مسؤول ايراني يخجل من الحديث عن أنّ طهران تسيطر على أربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء التي أضيفت أخيرا إلى المقتنيات، أو جوائز الحرب، الإيرانية...
لم يعد سرّا أن العاهل الأردني كان مصيبا في كلمة قالها. كان متقدّما على كثيرين غيره، باستثناء عدد قليل من المسؤولين، بسنوات عدّة. هذا ليس عائدا إلى قدرة عبدالله الثاني على استشفاف الأحداث فحسب، بل هو عائد أيضا إلى قدرة الأردن على تجاوز المحن منذ خمسينات القرن الماضي وصولا إلي حرب العراق في العام ٢٠٠٣ وما تلاها من تفتيت للبلد وصولا إلى الثورة التي تشهدها سوريا والتي أدّت إلى وجود مليون ونصف مليون لاجئ في أراضي المملكة.
بالنسبة إلى الأردن، لم يتغيّر شيء. هناك من لا يزال يراهن على سقوط المملكة. من كان يصدّق في العام ١٩٧٠ أن الأردن سيتصدّى بطريقة حاسمة لمحاولات المنظمات الفلسطينية المسلّحة قلب الحكم، بما سيؤدي إلى قيام الوطن البديل فيه؟
من كان يصدّق أن الأردن سيضع بعد ذلك اللبنة الأولى للدولة الفلسطينية المستقلة التي لا يمكن إلّا أن ترى النور يوما. رسم الملك الحسين، رحمه الله، حدود تلك الدولة عندما أعلن عن قرار فك الإرتباط& صيف العام ١٩٨٨ وعندما توصل إلى اتفاق سلام مع اسرائيل في خريف العام ١٩٩٤، راسما بذلك الحدود النهائية للأردن ومحافظا على حقوقه في الأرض والمياه.
رسم في الواقع حدود الأردن مع الضفّة الغربية التي ستكون حدود الدولة الفلسطينية في يوم من الأيّام. هل من مساهمة أكبر من هذه المساهمة في الحفاظ على الحقوق العربية، بما في ذلك الحق العربي في القدس الشرقية التي لا يزال الأردن في مقدّم المدافعين عنها؟
قدّم الأردن تضحيات كثيرة. إسم جيشه "الجيش العربي". قدّم أخيرا الطيار معاذ الكساسبة الذي ذهب ضحية الحرب على الإرهاب. هذه الحرب حرب الأردنيين جميعا الذين في استطاعتهم أن "يرفعوا رأسهم" في كلّ يوم، بل في كلّ ساعة نظرا إلى أن بلدهم أثبت مرّة أخرى أنّه قادر على تحمل مسؤولياته.
أكثر من ذلك، استطاع الأردن تكريس دوره الثابت في المعادلة الإقليمية. إنّه دور الدولة التي لا تزال تؤمن بأنّ لا خيار آخر أمام شعوب المنطقة غير خيار الإعتدال والوسطية اللذين ينادي بهما عبدالله الثاني الذي اراد أن يؤكّد مجددا للأردنيين أمرين، إضافة بالطبع إلى ثقته بهم. الأمر الأوّل أنّه لا يكتفي بقيادة الشارع بدل الإنقياد له، والآخر أن متابعة القرارات المتخذة، من نوع خوض الحرب على الإرهاب بكلّ أشكاله، ليس مسألة موسمية. المتابعة جهد يومي وفعل إيمان بالأردن وقدرات الأردنيين في الوقت ذاته.&
&