فلاح المشعل

 عندما أطلق سعدي يوسف ديوانه الشعري "بعيدا ً عن السماء الأولى" قبل نصف قرن تقريبا ً، كأنه يسبق الزمن في إنذار المبدعين في بلادنا العربية للتحوط من عواصف التشرد المقبلة مع الموج الصاعد للحكومات "الثورية"، وتدبير شؤون عزلتهم مع دروب الغربة في البحث عن وطن متخيل، يعقب الهروب أوالغياب القسري عن الوطن "السماء الأولى"، تلك نبوءة الشاعر تبدو كأنها قانون تم تشريعه في شرقنا تساوقا مع كسوفه الدائم .

مرض الأنتماء للوطن أكثر من يمارس الضغط النفسي على المبدع، لا تنفع معه كل محاولات تدريب الذاكرة لتكون وطنا ً بديلا، وكم من الأرواح تحطمت جراء فشلها في مقاومة الحنين، كم من الجبابرة رفعوا راية الإستسلام وانحنوا لأعدائهم جراء شغف المكوث أو الموت تحت السماء الأولى .

صمت الوطن وجحوده أزاء أبنائه يشبه يد حجرية تضرب المبدع فتلقي به على رصيف النسيان والإهمال والفاقة أحيانا ً، ولم يخطأ من وصفه بمرض صار يلبس العديد من العراقيين حين يقسو عليهم الراهن المرّ بأمراضه وعزلته ويأسه، تحاصرهم اختناقات الغربة وتوغر بهم سهام الحنين للوطن، وتجرجرهم الذاكرة بوهم وديع لمجد مضى وسحر هارب فيستيقظوا على وجود ضائع وغد بلا تعريف .
ما أحزن الذكريات وأوجع الحنين حين يصعد النسيان من محيط الأصدقاء والأحبة الى مستوى التنكر الوطني،عندها تكون المحنة أكبر ..!
اللعنة التي حلت في بلادنا تزاوجت بين أقنعة غريبة صارت تلبس سلوك الآخرين، وإغتراب اخلاقي اسقط أيسر مبادئ الحقوق والرفقة التي ينبغي ان يحيط بها الوطن ابنائه وخصوصا تلك الأسماء الشاخصة في ذاكرته ، نعم هذا مايحدث في عصر موت الضمير والأخلاق، والوطن القتيل..!
ايها الوطن الموبوء بالجحود، كان الأجدر بك ان تذهب للرجل الرمز المسمى مظفر النواب فتحتفي بأستقباله لك، فالشاعر وطن آخر حين يكون من طراز النواب...!

الغريب ان السياب والجواهري والبياتي ونازك الملائكة وعبد الرزاق عبد الواحد ومصطفى جمال الدين و..... جميعهم يرحلوا تحت سماء غريبة، وثلاثة اجيال أخرى سيكون لها مواعيد مع مقابر الغرباء.

وهكذا غادر فؤاد سالم بلا وداع ... وتلك البصرة تترك حمدان يُحَدْرّ بصمت نحو المجهول والمدّ الصاعد بالنسيان والدموع ، كما تركتنا زها حديد وفي حدقات عينيها يرتسم حلم اللقاء مع بغداد .

 

يحزنك رحيل فنان الشعب يوسف العاني في أحدى مستشفيات الأردن وحيدا ً.. بلا زوار، ولا " النخلة والجيران" يحملون له الورد، هناك، يترك عبود بلا غناء، لقد فقد الذاكرة من ثقل هذا الزمن والجحود قبل اغفاءته الأخيرة ..!

عشرات بل مئات وألوف من نجوم واقمار، وبعض سماوات تطاردها غيوم من نار تعيد كل يوم رسم ملامح الوطن كي لاتندثر، وتحرس الخارطة من ذئاب الليل .
مؤسف ان يصبح الكبار والأعلام سبايا زمن الطراطير والمرتزقة واللصوص .. وصرخة الشاعر النواب يكتب ابجدياتها كل يوم أهالي الكاظمية والكرادة ؛
" هذا وطن أم مبغى ؟
هل أرض هذه الكرة الأرضية أم وكر ذئاب
سنصبح نحن يهود التاريخ
ونعوي في الصحراء بلا مأوى..."


لا أدري أية حكمة تحدث في وطن الله ..؟