نعوم تشومسكي الجواد الذي تعثر فكبا (1/2)

سألني أمس أحد الرفاق عن تقييمي لنعوم تشومسكي ففاجأني السؤال وشعرت في الحال أنني بحاجة إلى التعرف على هذا التشومسكي وهو من كان قد أسَرَني بعبقريته في علوم اللغة حتى أنني كتبت ورقة بتكليف من أحد المعاهد التعليمية حول تعليم اللغة الانجليزية إعتماداً على تحليلات تشومسكي وكانت محل تقدير خاص من إدارة المعهد . كان ذلك في السبعينيات حين لم أكن أعلم أن تشومسكي يكتب أيضاً في السياسة . في التسعينيات فاجأني تشومسكي السياسي لكن لسبب أو لآخر لم أكن أحفل بكتاباته ولعل ذلك، كما أرجح اليوم، كان لأنني لا أرى في المهنيين أهل علم في الماركسية بسبب إنشغالهم بمهنهم أولاً ولأن الماركسية تؤكد فيما تؤكد إلغاء تقسيم العمل وهو ما يعني في نهاية المطاف أن المتميزين بمهنهم المتميزة مثل نعوم تشومسكي وصديقه إدوارد سعيد وأمثالهما الكبار سيفقدون يوماً هذا التميّز والبهاء بعد إلغاء تقسيم العمل الاجتماعي وما يرافقة من بطلان القيمة الرأسمالية لمختلف الأعمال . لهذا أو لذاك لم أكن أحفل بكتابات تشومسكي اليسارية كما تعلن عن نفسها خاصة وأنني أعتبر أن التلوّن باليساروية إنما هو الخيانة المستترة للطبقة العاملة وللإنسانية بالتالي . فالماركسية نظرية علمية تعمل في المجتمعات عمل الفيزياء في المادة لا تميل إلى اليسار أو لليمين ؛ وأولئك الذين يربطون الماركسية بالعدالة الاجتماعية وبالدفاع عن الفقراء إنما يبتذلون الماركسية ويجهلون قيمتها العلمية الجوهرية . وسؤال الرفيق اليوم عن تقييمي لتشومسكي نبهني إلى واجب عليّ القيام به خاصة وأن تشومسكي فيلسوف ذو مكانه رفيعة على الصعيد العالمي حتى وإن كان يجهل القيمة العلمية للماركسية مثلما كان يجهلها الخصم التاريخي لكارل ماركس ميخائيل باكونين مؤسس المدرسة الفوضوية (Anarchism) التي تتفرع منها الإشتراكية التحررية (Libertarian Socialism) وهي المدرسة التي ينتسب إليها تشومسكي . تجاهل تشومسكي ليس سوى اعتوار فكري لا يجوز القبول به .

كتب نعوم تشومسكي في العام 1986 مقالاً تحت عنوان " الاتحاد السوفياتي ضد الاشتراكية " (Soviet Union Versus Socialism) يقول فيه ..

" the society created by Lenin and Trotsky and moulded further by Stalin and his successors has some relation to socialism in some meaningful or historically accurate sense of this concept. In fact, if there is a relation, it is the relation of contradiction "

وبالعربية يقول .. " المجتمع الذي ابتدعه لينين وتروتسكي وأضاف تعديلات عليه ستالين وخلفاؤه علاقته بالاشتراكية بالمعنى الدقيق والتاريخي لفكرة الاشتراكية هي أنه النقيض لها "

ثمة شرطان لكل نقد للإشتراكية السوفياتية، وهي مشروع لينيني خالص، لا بد من اعتمادهما كيما تتوافر أدنى مشروعية للنقد . الشرط الأول منهما هو أن الناقد يجب أن يكون ماركسياً أو بالأدنى لديه القبول بالماركسية فالمشروع اللينيني تأسس على الماركسية ولذلك لا يجوز لمن لا يقبل بماركس أن ينتقد مشروعاً قام أساساً على الماركسية وتشومسكي كإشتراكي تحرري لا يقبل بماركس أي أنه يرفض مشروع لينين قبل "ابتداعه" . والشرط الثاني هو أن الناقد يجب أن يكون على علم واسع بتاريخ تطور المشروع اللينيني وبمختلف الظروف التي أحاطت بكل مراحل تطوره .

تشومسكي يفتقد الشرطين كليهما، فهو يناصر الاشتراكية التحررية (Libertarian Socialist) التي هي في الأصل فرع من فوضوية ميخائيل باكونين الخصم الأشرس لماركس في الأممية الأولى حتى قيل أن ماركس نقل مركز الأممية الأولى من لندن إلى نيويورك بقصد التخلص من باكونين . ويزيد على ذلك تشومسكي فيدعي أن اللينينية تتعارض تماماً مع الماركسية بحجة أن ماركس لم يكتب أي شيء عن بناء الاشتراكية . صحيح أن ماركس لم يكتب شيئاً عن بناء الاشتراكية لكن هذا ليس نفياً للينينية ولا لتعارضها مع الماركسية ؛ بل إن ماركس وإنجلو قررا ألا يقولا شيئاً عن بناء الاشتراكية وذلك لأن بناءها في بلد أو بآخر يعتمد كليّاً على الشروط السائدة في البلد المعني، وهو ما يعني أن الاشتراكية السوفياتية تقرر بناؤها وفقاً للشروط السائدة في روسيا القيصرية أثناء الحرب العالمية الأولى . تشومسكي رفض مشروع لينين قبل أن يبدأ ودون أن يتعرض بكلمة عن الشروط السائدة في روسيا آنذاك، وهذا وحده يفقد نقد تشومسكي كل مشروعية . وصحيح أن ماركس لم يكتب شيئاً عن بناء الاشتراكية لكنه حدد المدخل الوحيد الذي على بناة الاشتراكية أن يدخلوا منه وهو " دولة دكتاتورية البروليتاريا "، المدخل الذي يرفض الفوضويون وعلى رأسهم الإشتراكي التحرري نعوم تشومسكي الدخول منه وهم لذلك وفق المعيار الحدي الماركسي ليسوا اشتراكيين وليسوا مؤهلين لمعايرة إشتراكية المشروع اللينيني .

وما يثير بي الدهشة أكثر من غيره من أمور نعوم تشومسكي هو كيف أن هذا العالم اللغوي الجليل يقبل لنفسه أن يرفض الاشتراكية السوفياتية وهو في جهل مطبق لظروف ولادتها والعملية القيصرية التي أجريت لولادتها على أيدي الطبيب البارع فلاديمير لينين .

ثقات التروتسكيين لا يجرؤون على الإدعاء أن تروتسكي شارك لينين في "خلق" المجتمع الاشتراكي الجديد فلينين طلب من البلاشفة الانتفاض واستلام السلطة حين كان تروتسكي في نيسان 1917 عدواً للحزب ولليبنين . تشومسكي ادعى مثل هذا الادعاء الباطل لأن تروتسكي عمد منذ دخوله في الحزب إلى تجميع العناصر الفوضوية والمنشفية حولة في كتلة معارضة للينين بادعاء اليساروية .

في مفاوضات صلح برست لوتوفسك مع الألمان تحقيقاً للإنسحاب من الحرب رفض تروتسكي توقيع معاهدة الصلح كما عرضها الألمان وعاد إلى موسكو ليعلن أن لينين عميل لألمانيا ويجب إسقاطه . كان ذلك في مارس آذار 1918 قبل تشكيل أي مجتمع في روسيا . البورجوازية الروسية سمعت نداءات تروتسكي بإسقاط لينين والبلاشفة وهبت في ثورة مضادة مسلحة مستهدفة انتزاع السلطة من ايدي البلاشفة وإسقاط لينين . ما إن شارفت الحرب الأهلية على الانتهاء حتى بدأت حروب التدخل إذا جندت أربع عشرة دولة رأسمالية تسعة عشر جيشا بكامل التجهيزات الحديثة هدفها "خنق البولشفية في مهدها " . في مارس آذار 1921 ألحق البلاشفة هزيمة نكراء بسائر جيوش التدخل وبدأ البلاشفة بمناقشة شروط تشكيل المجتمع السوفياني في المؤتمر العام العاشر للحزب الذي انعقد بذات الوقت .

في ذلك المؤنمر التأسيسي للمجتمع الاشتراكي السوفياتي مارس آذار 1921 وقف تروتسكي على رأس كتلة وصفها باليسارية تضم عتاصر فوضوية وبعض فلول المنشفيك يعارض التيار اللينيني في أهم المسائل المطروحة . عارض تروتسكي إقامة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي بادعاء استحالة قيام اشتراكية في بلد واحد، وهو إدعاء ما زال التروتسكيون يقولون به وهو ما يحول على تشومسكي أي زعم بمساهمة تروتسكي في "خلق" المجتمع الاشتراكي الجديد . كما ابتدع تروتسكي مفهوماً جديدا للمفهوم الماركسي حول "الثورة الدائمة" مدعياً أن الثورة الاشتراكية لن تنجح في روسيا قبل أن تستدام عابرة الحدود إلى ألمانيا على الأقل . وحمل تروتسكي في ذلك المؤتمر الفكرة الرئيسية في الأفكار الفوضوية وهي أن العمال في المؤسسة الإنتاجية هم الذين يقررون شروط الإنتاج وعلاقات الإنتاج في المؤسسة . لقد هاجم لينين أفكار تروتسكي البورجوازية الفوضوية وطلب من المؤتمر أن يتخذ قراراً قاطعاً يحرم فيه قيام أية تكتلات في الحزب وهكذا كان . نسوق هذه الحقائق التاريخية لنسأل .. ماذا تبقى لتشومسكي ليدعي أن تروتسكي كان شريك لينين في خلق المجتمع الاشتراكي الجديد !؟ 

تشومسكي ينتقد أو الأحرى يرفض الاشتراكية السوفياتية بوصفها نقيض الاشتراكية كما يتصورها في مخيلته . هو يجهل محطات رئيسية في تطور الاشتراكية السوفياتية، ويجهل أن البلاشفة قاموا في عشية 7 نوفمبر 1917 يانتفاضة (Insurrection) لاستكمال الثورة البورجوازية وليس ثورة (Revolution) لإقامة النظام الإشتراكي حيث كانت الحكومة المؤقتة، حكومة الحزب الاشتراكي الثوري (البورجوازي) بقيادة كيرنسكي الذي قاد الثورة البورجوازية في فبراير شباط 1917 قد تنكرت لأهداف ثورتها الرئيسية الثلاث وهي الإنسحاب من الحرب والإصلاح الزراعي وانتخاب مجلس تشريعي للجمهورية . حكومة كيرنسكي لم تنسحب من الحرب بل زادت من مشاركتها فيها فكان أن طالبت جماهير الشعب وخاصة الفلاحون الذين أعلنوا إضراباً عن العمل استمر لستة شهور وكان أول إضراب للفلاحين في التاريخ، طالبت البلاشفة وكانوا أقوى الأخزاب بالانقلاب على حكومة الاشتراكيين الثوريين وانتزاع السلطة منهم فتم ذلك ودعا لينين جميع الأحزاب للمشاركة في الحكومة التي عليها تحقيق أهداف الثورة البورجوازية لكنها لم تلب الدعوة .

بعد ثلاثة شهور فقط من انتفاضة أكتوبر، أي في مارس آذار 1918 وفي إئتلاف رجعي جامع أعلنت البورجوازية ومعها كافة القوى الرجعية والقيصرية الثورة المسلحة بحجة توقيع حكومة لينين اتفاقية الصلح الجائرة مع الألمان وكان شعار الثورة المضادة "سحق البلاشفة" . إلتف العمال والفلاحون الفقراء حول حزب البلاشفة وقدموا تضحيات غير مسبوقة حتى الانتصار . في مارس آذار 1919 أعلن لينين الثورة الاشتراكية العالمية مستوحياً فكرة ماركس التي عبر عنها في تعقيبه على ترجمة البيان الشيوعي 1882 بأن تنطلق شرارة الثورة الاشتراكية من روسيا لتشعل نار الثورة في ألمانيا وغرب أوروبا . كانت إنتفاضة أكتوبر هي فعلاً الشرارة التي اشعلت الثورة في ألمانيا وفي المجر وفي دول البلطيق لكن الامبريالية الدولية كانت في أوج قوتها واستطاعت إخماد الثورة الاشتراكية في أورويا الغربية ساعدها في ذلك خبرة الشيوعيين الألمان الثورية المتدنية وهو ما أحبط لينين . ما يلزم التوقف عنده مليّاً هو أن لينين نادى بالثورة الشيوعية في العالم وشكل الأممية الشيوعية لهذه الغاية لكنه مع ذلك لم يبدأ بناء الاشتراكية في بلاده ! الموضوعة الرئيسية في المؤتمر العام العاشر للحزب الشيوعي البلشفي في مارس آذار 1921 كان النقاش حول البدء ببناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي وكان ذلك بعد الانتصار في حروب التدخل وهزيمة أربع عشرة دولة رأسمالية لم تتحقق قبل مارس آذار 1921 .