رغم التحديات الكبيرة (الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية واللغوية)، التي فرضها الغزو العربي الاسلامي على مسيحيي المشرق بهدف دفعهم لدخول الاسلام وطمس هويتهم الخاصة وصهرهم في العروبة، تجمعات مهمة من الاقباط و الآشوريين(سرياناً وكلداناً وموارنة) والأرمن، بقيت على عقيدتها المسيحية وحافظت على سماتها الاثنية والثقافية ولغتها القومية الخاصة. أن مسالة الانتماء الإثني للشعوب هي مسالة علمية أنتربولوجية، لكن هذه القضية، كغيرها من القضايا المجتمعية الهامة والحساسة، خضعت للرغبات السياسية والعقائد الايديولوجية للقوميين العرب، فبجرة قلم منهم اصبحت الأقوام المسيحية المشرقية "عرباً". في وقفة تاريخية غير مسبوقة في تاريخ الكنائس المشرقية ، بعد أكثر من 1400 عام على الغزو العربي الاسلامي للمشرق المسيحي، اربعة بطاركة، رؤساء أقدم الكنائس المشرقية( الكنيسة السريانية الكاثوليكية - الكنيسة السريانية الأرثوذكسية - الكنيسة الكلدانية - كنيسة المشرق الآشورية)، قرروا خلع "ثوب العروبة" والخروج عن صمتهم، والقول " لسنا عرباً". عبر رسائل بعث بها البطاركة الى القيادات السياسية (الرئاسات الثلاث) والمؤسسات التشريعية العراقية ، طالبوها بتعديل المادة 125 من الدستور العراقي وادراج فيه اسم (السريان) كقومية ومكوّن أساسي في العراق، كذلك إدراج السريان في "البطاقة الوطنية"، اسوة بأخوتهم (الكلدان ، الاشوريين) وببقية مكونات المجتمع العراقي. تجدر الاشارة الى أن الدستور العراقي أقر في المادة الرابعة من الباب الأول على "أن اللغة السريانية هي إحدى اللغات المعترف بها في العراق، وهي اللغة التي يتحدث بها السريان ،الاشوريين، الكلدان". من الأهمية بمكان التذكير بما جاء في بيان اللجنة التحضيرية لإدارة شؤون الناطقين بالسريانية في العراق في اوائل عام 1973 " أن الناطقين بالسريانية، من آثوريين وكلدان وسريان ، هم أبناء قومية واحدة انحدرت من الآشوريين القدامى وذلك من النواحي الأصل واللغة والتاريخ والتراث الحضاري ".

لا خلاف على أن خطوة البطاركة جاءت متأخرة ومتأخرة جداً ، لكن (أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي ابداً). تحرك البطاركة جاء في سياق التحولات السياسية والفكرية والثقافية والمجتمعية العميقة، التي شهدها ويشهدها المجتمع العراقي منذ الغزو الامريكي /الغربي له 2003 . خطوتهم غير مفصولة عن التطورات والتحولات السياسية والفكرية والوقائع الجديدة التي افرزتها الحرب السورية المستعيرة منذ أكثر من خمس سنوات. حرب زعزعت الوجود المسيحي ليس في سوريا فحسب وإنما في عموم المشرق. اراد البطاركة ومن خلال وقفتهم هذه لفت أنظار المجتمع الدولي لمحنة مسيحيي المشرق والاحتجاج على التهميش السياسي والقومي للآشوريين(سرياناً وكلداناً)، من قبل حكومتي بغداد و اربيل . وقد انضمت اليهم الكنيسة الأرمنية ، وطالبت بتثبيت "القومية الارمنية" في الدستور العراقي والبطاقة الوطنية وتخصيص مقعد للأرمن في البرلمان العراقي. موقف بطاركة الكنائس (الآشورية السريانية الكلدانية) يشكل تحول نوعي من الحقوق القومية والسياسية للآشوريين (سرياناً وكلداناً) ، سيكون له نتائج إيجابية على مستقبل "القضية الآشورية" في العراق كذلك في سوريا، المقبلة هي الأخرى على تحولات سياسية ومجتمعية وثقافية عميقة ومهمة. دعم البطاركة إدراج "السريان"، الى جانب الآشوريين والكلدان، في الدستور العراقي، يعود الى إيمانهم بوحدة التاريخ والمصير المشترك لهذه المكونات المشرقية الأصيلة.

 مطلب البطاركة، ولأنه جاء باسم الطوائف، أثار مخاوف وقلق لدى أنصار "الهوية الآشورية" الواحدة الجامعة لجميع أتباع الكنائس السريانية الكلدانية والمشرق الآشورية. إنها مخاوف مشروعة، من دون شك. لأن تثبيت السريان والآشوريين والكلدان بثلاث تسميات مستقلة في الدستور العراقي من شأنه أن يكرس حالة الانقسام في البيت الآشوري ويساهم في " قومنة " طوائف هي متحدرة من اصول عرقية واثنية وبناة حضارة واحدة . لا نأتي بجديد بقولنا ، أن واقع مسيحيي المشرق واقع معقد، يتشابك فيه الديني بالقومي بالطائفي بالسياسي بالثقافي بالتاريخي. لهذا ارى من الخطأ النظر لبطاركة المشرق والتعاطي معهم، كما لو أنهم رؤساء أحزاب وقادة لحركات سياسية قومية ، فيما هم رجال دين منشغلون بحقوق الله أكثر من حقوق البشر. كل رئيس كنيسة يعتبر نفسه أميراً على رعيته . ثمة واقع طائفي وانقسام مذهبي بين الآشوريين عمره أكثر من 1500 عام ، يصعب وربما يستحيل القفز عليه وتخطيه بقرار سياسي أو كنسي أو بكلام عاطفي . قرون من الخلافات والتباعد والانغلاق الفكري والثقافي والاجتماعي أوجدت تمايزات، ثقافية ونفسية ولغوية ومجتمعية، بين أبناء الشعب الواحد . عبر التاريخ، لعب المستعمرون والحركات التبشيرية الغربية في تعميق وتجذير هذه التمايزات، حتى أصبحت كل طائفة تنظر لنفسها على أنها قومية وأمة بذاتها. حتى الأمس القريب كان ذات البطاركة ينسبون أتباع كنائسهم الى العرب والعروبة . وقد وصل "الهذيان الفكري" بالبطريرك السرياني الراحل( زكا عواص) للقول" دم العروبة يسري في عروقنا". إزاء هذا الواقع المسيحي المشرقي المعقد المتشابك، ارى من المهم جداً في هذه المرحلة أن يستثمر الآشوريون(سرياناً وكلداناً) والارمن ، خطوة البطاركة للتحرك، لأجل الاعتراف الدستوري بهم كقومية وبحقوقهم السياسية والثقافية في سوريا. فمن غير المعقول أن يسمى ابناء الكنائس الآشورية السريانية الكلدانية والارمنية في الدستور العراقي بتسمياتهم وهوياتهم الخاصة، فيما في سوريا يسمون عرباً.

أخيراً: التطورات الدراماتيكية التي تعصف بالمنطقة وما فرضته من تحولات سياسية وغير سياسية ، تشكل فرصة تاريخية أمام بقية بطاركة المشرق ليخرجوا عن صمتهم وخلع "ثوب العروبة" عن كنائسهم وعن شعوبهم والعودة بهم الى انتماءاتهم وهوياتهم وثقافاتهم القومية الأصيلة، المتجذرة في تاريخ وحضارة المشرق .

سليمان يوسف يوسف ... باحث سوري مهتم بقضايا الأقليات