على الرغم من التهويل الإعلامي وتضخيم ماحدث في كركوك منذ بدايات الهجمة الإرهابية الأخيرة، لكني أعتقد بأن الخطة الغبية التي وضعها داعش للهجوم على المدينة لم تكن بقصد إحتلالها بقدر ما كان الهدف منها هو إثارة البلبلة داخل صفوف قوات البيشمركة التي تقاتل حاليا في جبهة الموصل، وكذلك إثارة قلق تلك القوات على الجبهة الخلفية بقصد التأثير على معنوياتها، وعلى أبعد تقدير دفع تلك القوات للتراجع عن جبهة الموصل والعودة لدرء الخطر عن كركوك بهدف تشتيت قوات البيشمركة الكردية.. فنحن نعلم بأن قوام القوة الأساسية التي شاركت في العمليات الأولى لتحرير مدينة الموصل كانت من بيشمركة الإتحاد الوطني الكردستاني التي نجحت منذ البداية بتوجيه ضربة ساحقة لقوات داعش في المناطق المحيطة بالموصل، ولعل جل تلك القوات هم من أبناء محافظة كركوك ومنطقة كرميان التي أراد داعش إثارة البلبلة فيها بقصد التأثير على معنويات أفراد وقادة البيشمركة المرابطين بجبهات الموصل.

الخطة الغبية والفاشلة لتنظيم داعش بإحتلال كركوك، خلت تماما من الناحية العسكرية عن دراسة الواقع الديموغرافي في المدينة من جهة، وكذلك دراسة عناصر القوة والضعف فيها، فكركوك ليست كالموصل من الناحية الديموغرافية، فأكثرية سكانها من الكرد ومعظمهم مسلحون ومعروف عن شبابهم بأنهم على إستعداد لإسترخاص دمائهم من أجل الدفاع عنها، وأن القوة الأساسية هناك تنتمي الى الإتحاد الوطني الكردستاني وهي القوة التي تمكنت قبل ربع قرن من مواجهة قوات النظام الفاشي الصدامي وتحرير المدينة لأول مرة بتاريخها. ومن الناحية العسكرية فإن داعش عند هجومه على الموصل كانت قوته الأساسية تتركز في الحاضنة الموجودة داخل المدينة خاصة وأن الموصل كانت طوال سنوات بعيدة مهدا للقومية العربية ومركزا أساسيا لقوة حزب البعث في سنوات حكمه للعراق، وكان معظم قيادات وضباط الجيش العراقي من هذه المدينة أثناء حكم البعث والذين تحولوا الى قادة وأمراء في التنظيم أو من المتعاونين معهم بعد سقوط النظام عام 2003، أما بالنسبة لكركوك فإن الحاضنة تركزت في المناطق المحيطة بكركوك في مقدمتها الحويجة وغيرها من المناطق العربية المتعاونة مع داعش، أما في مركز المدينة فإن عنصر القوة الأساس يتمثل في قوات الآسايش الكردية وقوات البيشمركة المنتشرة على تخوم المدينة، ولذلك كان عسيرا على تنظيم داعش أن يستولى على كركوك بسهولة كما فعل بالموصل.. وقد شاهدنا عبر الشاشات كيف هب شباب المدينة عن بكرة أبيهم للدفاع عن مدينتهم والإستشهاد من أجلها.

ومن جانب آخر ليس معقولا من الناحية العسكرية إحتلال مدينة مترامية الأطراف بمجرد إرسال مائة عنصر مدججين بالأسلحة الخفيفة فقط، أو بمجرد إحتلال بعض البنايات المرتفعة، فهجوم من هذا الحجم يحتاج الى قوة كبيرة من الآليات والأسلحة الثقيلة لكي يتمكن المهاجمون من الإحتفاظ بمواقعهم ومواصلة صمودهم أمام القوة الضاربة من الشرطة والآسايش ومن قوات مكافحة الإرهاب العالية الأداء، وبذلك يتبين لنا بأن الهدف الأساسي من الهجمة لم يكن إحتلال المدينة بقدر ماكان إشغال قوات البيشمركة والتأثير على معنوياتهم والإيحاء بعدم إستقرار الجبهة الخلفية.

اللافت فيما حدث بكركوك هو الإلتفاف الجماهيري خلف قوات البيشمركة والأمن المحلي في صد هجوم داعش، وهذا في الوقت الذي يذكرنا بالإنتفاضة الشعبية ضد النظام الدكتاتوري في 21 آذار 1991 حين تمكنت قوات البيشمركة بتعاون الجماهير المنتفضة من تحرير كركوك، فإن ذلك الإلتفاف ومشاهد الشباب الكردي وهم يحملون الأسلحة الخفيفة لمواجهة خطر هذا التنظيم الإرهابي،كان بمثابة رسالة واضحة على إستعصاء أي قوة أجنبية من إعادة إحتلال كركوك أو أية مدينة أخرى من مدن كردستان.

قبل الختام لابد من التنويه بالدور البطولي الذي قامت به قوة مكافحة الإرهاب الكردية في صد الهجوم ومطاردة العناصر المتخفية بين البيوت والأحياء وإعتقالهم ومنهم أحد أمراء التنظيم الذي قاد المعركة الفاشلة، والأهم من ذلك دور هذه المؤسسة الأمنية في التحقيق المعمق لكيفية دخول وتسلل هؤلاء المقاتلين الى داخل كركوك، خاصة وأن هناك تحليلات وإفادات بأن هناك دولة إقليمية ساعدت الإرهابيين في ذلك الى جانب إتهامات موجهة الى قوة داخلية أخرى مهدت السبيل لوصولهم الى أطراف كركوك.

أما في الختام فأعتقد بأن هذه الهجمة كانت آخر المحاولات اليائسة لداعش لإستعادة المعنويات المنهارة للتنظيم في جميع الجبهات وخصوصا بعد بدء معركة الموصل، وفشل غزوة كركوك يدل دلالة واضحة على عقم المقاومة التي يبديها التنظيم أمام هبة الجماهير لمحوه من العراق وإستعادة الأمن والإستقرار له، وهذا أمر بات شبه أكيدا بعد إندحار داعش في معظم الجبهات وتراجعه نحو المناطق السورية والتي ستشهد بإعتقادي آخر صفحات الحرب ضد الإرهاب الداعشي في المنطقة عموما.