" نينوى" عاصمة الامبراطورية الآشورية البابلية ومهد "المسيحية السريانية" في العراق. منذ نشأة الدولة العراقية الحالية في عشرينات القرن الماضي ومسيحيو نينوى، كما مسيحيو كل العراق، تعرضوا لسلسلة عمليات تطهير عرقي وديني. تارة على ايدي جيوش الحكام الطغاة، وتارة أخرى على أيدي شعوبه المسلمة. وثائق خاصة بمدينة الموصل(مركز محافظة نينوى)، تكشف عن أن عدد المسيحيين في المدينة، حتى الغزو الامريكي الغربي للعراق عام 2003، كان قرابة 60 ألفاً. الفوضى الأمنية والسياسية، التي أحدثها الغزو، المسيحيون كانوا ابرز ضحاياه، دفعت بمئات الآلاف من المسيحيين الى الهجرة وترك العراق. صيف 2014 احتلت عصابات تنظيم الدولة الاسلامية- داعش، مدينة الموصل وكامل محافظة نينوى، واجتاحت القرى والبلدات والمدن الآشورية المسيحية واليزيدية والشبك والصابئة. خَيرَ تنظيم الدولة الاسلامية، المسيحيين بين اعتناق الاسلام أو دفع الجزية أو الرحيل، وإلا مصيرهم الذبح والقتل. المسيحيون فضلوا "الرحيل". وقد أنشأ داعش في الموصل سوقاً خاصاً لبيع " غنائم المسيحيين النصارى" التي نهبوها من البيوت والمحال التجارية والكنائس، وسوقاً آخر لبيع السبايا،من المسيحيات والايزيديات. الاحتلال الاسلامي الداعشي، حول بلدات ومدن سهل نينوى الى مناطق منكوبة. بيوت مهجورة. اديرة وكنائس مهدمة. صلبان منكوسة. كنوز حضارية (دينية وقومية) نفيسة مبعثرة. قبور وأضرحة، دنسها الغزاة. مبان ودوائر حكومية ترفرف فوقها الاعلام السوداء لدولة الخلافة الاسلامية. كما كل الغزاة، اراد تنظيم الدولة الاسلامية، القضاء على كل ما يدل و يشهد على أنهم (الآشوريون) كانوا هنا في "بلاد ما بين النهريين" منذ فجر التاريخ. في اطار العملية العسكرية، التي انطلقت 18 تشرين الأول الجاري، تم تحرير غالبية بلدات ومدن سهل نينوى. عاد الكهنة الى كنائسهم وبدأوا يلملمون كنوزهم النفيسة، من كتب ووثائق وايقونات وتحف، التي عبث بها ودنسها الغزاة. بعد أكثر من سنتين من الصمت القسري، عادت نواقيس الكنائس تدق من جديد، تبشر بمرحلة جديدة تنتظر مسيحيي سهل نينوى. مشهد جنود عراقيين، وهم يرفعون الصلبان على الكنائس بعد تحريرها من عصابات داعش، بعث الأمل والتفاؤل في نفوس المسيحيين. لكنه ليس كافياً لطمأنه من تبقى منهم والراغبين بالعودة الى بلداتهم ومنازلهم. في الموصل، إبان "غزوة داعش"، مسلمون، كان المنتظر منهم حماية أخوتهم وابناء مدينتهم، خذلوا وخانوا جيرانهم وأصحابهم المسيحيين،بانضمامهم الى مسلحي تنظيم الدولة والمشاركة معهم في خطف وقتل وطرد المسيحيين والسطو على بيوتهم ومحالهم التجارية وحرق كنائسهم. ليس بعيداً عن ما جرى لمسيحيي نينوى على ايدي عصابات داعش، و فيما القوات العراقية تقاتل تنظيم الدولة الاسلامية في معركة " تحرير الموصل"، صوت مجلس النواب العراقي يوم السبت 22 تشرين الأول على "قانون يحظر استيراد وتصنيع وبيع المشروبات الكحولية بكافة انواعها في العراق ". القرار يحمل رسائل عديدة وفي أكثر من اتجاه. ابرزها، رسالة تضامن وتعاطف، من معدي مشروع القرار، مع عقيدية وأيديولوجية تنظيم الدولة الاسلامية المتشدد. القانون يكشف مدى هيمنة الاصولية الاسلامية المتشددة على الحياة السياسية في العراق. لا خلاف على أن قانون حذر المشروبات الروحية، يمس الحقوق والحريات الفردية والاجتماعية لجميع العراقيين. بيد أنه شكل ضربة معنوية واقتصادية قوية للمسيحيين ولغير المسلمين عموماً. الأخطر في القضية، من شأن هكذا قانون، التحريض على قتل المسيحيين وتأجيج النزعات والأحقاد الطائفية والكراهية الدينية بين العراقيين. فلم تمضي سوى أيام قليلة على هذا "القانون الداعشي"، حتى تم اغتيال العراقي (نزار إلياس القس موسى) صاحب محل لبيع المشروبات الكحولية في مدينة البصرة مساء الثلاثاء الماضي، على ايدي اسلاميين متشددين. "سهل نينوى"، الفاصل بين الاقليم الكردي في الشمال والاقليم العربي الممتد من الوسط الى الجنوب، بالنظر لأهميته الحيوية، هو من ضمن المناطق المتنازع عليها بين حكومة بغداد وحكومة اربيل. هذا القليل، القليل المتبقي للآشوريين المسيحيين( سرياناً وكلدناً) من مناطقهم التاريخية في العراق أصبحت "مناطق متنازع" عليها بين المحتل العربي والمحتل الكردي. كأنها مناطق لا أهل لها و بلا أصحاب. أو أن أصحابها غير مؤهلين لحكم أنفسهم وإدارة مناطقهم. تحرير "سهل نينوى" من الاحتلال الداعشي، لا يعني بالضرورة تحرير سكانه ونهاية داعش لا تعني نهاية محنة مسيحيي نينوى. التحدي الأكبر الذي يواجه آشوريو و مسيحيو العراق اليوم هو: لمن ستُقرع أجراس كنائس نينوى، للحكم الاسلامي العربي القائم في بغداد أم للحكم الاسلامي الكردي القائم في اربيل؟؟. داعش، خير مسيحيي نينوى بين اعتناق الاسلام أو دفع الجزية أو القتل، لكنهم قرروا "الرحيل". بعد طرد عصابات داعش، على الآشوريين والمسيحيين أن يختاروا، بين التبعية للحكم الاسلامي العربي، والتبعية للحكم الاسلامي الكردي. يبدو أن (تيلمان تسولش)، رئيس منظمة جمعية الشعوب المهددة بالانقراض ( مقرها غوتينغن – المانيا )، كان محقاً بقوله خلال لقاءنا به في مقر المنظمة في كانون الأول 2004 "على آشوريي ومسيحي سهل نينوى أن يختاروا من الآن، بين التبعية لحكومة بغداد العربية وبين التبعية لحكومة اربيل الكردية". وفق الكثير من التقارير المتعلقة بالشأن العراقي، الخلاف حول مستقبل "محافظة نينوى" كان من الأسباب الأساسية لتأخير عملية تحريرها من قبضة داعش. إذ، اشترطت الحكومة الكردية على نائب الرئيس الأميركي (جو بايدن ) اثناء زياته الأخيرة لاربيل الاتفاق على مصير ومستقبل نينوى قبل البدء بمعركة تحريرها. جدير بالذكر، أن ممثلي الآشوريين والمكون المسيحي في البرلمان العراقي وبرلمان الإقليم الكردي طالبوا، بتقسيم محافظة نينوى إلى ثلاث محافظات أو اقاليم. احدها خاصة بالأقليات وواحدة تتبع الإقليم والاخرى تتبع بغداد. اثناء زيارة نائب وزير الخارجية الأمريكي (أنتوني بلينكن) والمبعوث الخاص للرئيس الأمريكي لمحاربة تنظيم الدولة الاسلامية/داعش (بريت ماكغورك) إلى بغداد واربيل، بحثا امكانية اقامة "محافظة للمسيحيين" في سهل نينوى. رغم تضمين الدستور العراقي مواد تسمح بإنشاء اقاليم ومحافظات فدرالية جديدة داخل العراق، رفض مجلس النواب العراقي خلال جلسته المنعقدة 26 ايلول تقسيم محافظة نينوى. الرافضون، نواب الكتل العربية ( شيعية وسنية).الرفض هو لأسباب سياسية وليست دستورية قانونية. وفق آراء الكثير من ابناء سهل نينوى، إذا ما تُرك للآشوريين(سرياناً وكلداناً) والمسيحيين حرية الاختيار، لن ينضموا للإقليم الكردي لأن "دستور الإقليم" يقطع عليهم فرصة إنشاء "اقليم حكم ذاتي". الآشوريون والمسيحيون وباقي الأقليات في سهل نينوى من حقهم أن يقرروا مصيرهم ويديروا شؤنهم ضمن "إقليم فدرالي" يتمتع بالحكم الذاتي، إسوة بالأكراد والعرب. من المؤكد، أن حكومة البرزاني لن تترك للآشوريين حرية الاختيار وتقرير المصير، خاصة وقد باتت قواتها "البشمركة" تسيطر على معظم البلدات والمدن والقصبات في سهل نينوى. الخوف من إخضاع السهل وبالقوة الى حكم البرزاني، يجعل بعض القوى الآشورية مثل (الحركة الديمقراطية الآشورية)، تتحفظ أو ترفض تقسيم نينوى وتفضل بقاء تبعيتها لحكومة بغداد. مثلما رحل آشوريو ومسيحيو نينوى هرباً من داعش، كذلك سيرحل من تبقى منهم الى خارج العراق إذا ما ارغموا على القبول بالوصاية الاسلامية عليهم، عربية كانت أم كردية. في الماضي، مصالح الدول المنتصرة في الحرب الكونية الأولى حالت دون ايجاد حل معقول لمشكلة الآشوريين وقضت مصالحها أن لا يكون لهم كيان خاص بهم ولو على جزء من وطنهم التاريخي "بلاد ما بين النهرين". اليوم، رغم الحديث الامريكي والاوربي عن إمكانية إقامة "محافظة للمسيحيين في سهل نينوى" تتمتع بنوع من الحكم الذاتي ضمن العراق،الذي يعاد تشكيله من جديد، لا يبدو أن أمريكا جادة وراغبة بإنشاء مثل هذا "الكانتون الآشوري"، يحفظ ويحمي من تبقى من الآشوريين والمسيحيين العراقيين.
سليمان يوسف يوسف.... باحث سوري مهتم بقضية الأقليات
[email protected]