ولد جورج برنارد شو بمدينة دبلن في عام 1856، وكان والده تاجر بقوليات فاشل، وأحيانا موظف حكومي، وكانت والدته مهتمة بالفنون المسرحية. وقد تركت الدراسة أثر سلبي على طفولته، فكتب يقول: "المدارس والمعلمين ليسوا بوسيلة للتعليم، بل هم سجن وسجان، وذلك لمنع الاطفال ازعاج ذويهم." كما اعتبر البرامج المدرسية برامج بالية، وغير مفيدة، بل هي تقتل الابداع وتحطم الروح، وكان معارضا شديدا لاستخدام الضرب كعقاب في المدارس. وقل تنقل في شبابه مع والدته بين مسارح لندن، ولمس ثقافة الفن والمسرح، وتشجع في محاولات كتابية، انتهت به لأن يكون خيرة كتاب ومفكري عصره، وليجمع، ولأول مرة في التاريخ، فنان بين جائزة نوبل في عام 1925، وجائزة الأوسكار السينمائية في عام 1938، كما كان من أحد مؤسسي كلية لندن الاقتصادية. وقد أهتم بالسياسة والاقتصاد، وكتب كثير من المقالات للجمعية الاشتراكية الفابية، وتوفي في عام 1950 وهو في الرابعة والتسعين من عمره.

وقد جمع جورج برنارد شو بين الطرفة والحكمة والفلسفة. فقد سألته الراقصة العالمية إزادورا دنكن مرة عن رأيه لو انهما تزوجا، ليجمع طفلهما بين جمال جسمها وعبقرية عقله، فرد عليها بقوله: "خوفي أن ننتهي بطفل يجمع بين جسمي وعقلك، لذلك أعتذر." وله مقولات كثيرة عن أمور الحياة، منها مقولة عن المعلومة: "كن حذرا من المعلومة الخاطئة، فهي أكثر خطرا من الجهل." ومقولة عن الحياة: "الحياة ليست قصة عن اكتشاف نفسك، بل هي عن اختراعك لشخصك." ومقولة عن الحكمة: "نحن حكماء ليس بأخطاء الماضي، بل بمسئولية المستقبل." ومقولة عن التطور: "التطور مستحيل بدون التغير، والذين لا يستطيعون تغير أفكارهم لن يستطيعوا تطوير أي شيء." ومقولة عن الجهل: "الجاهل يعتقد بأنه يعرف كل شيء." ومقولة عن النجاح: " النجاح لا يعني إلا نخطئ، بل يعني ألا نكرر نفس الخطأ مرتين." وأهم مقولاته هي مقولة عن العقلاء والبلهاء: "الإنسان العاقل يتكيف مع العالم، أما الإنسان الغير عاقل يصر على أن يتكيف العالم مع تفكيره، لذلك تطور البشرية يعتمد على الإنسان الغير العاقل."

تصور عزيزي القارئ هذه المقولة الغير متوقعة، بأنه يعتمد التطور البشري على الإنسان غير العاقل. فالإنسان الغير العاقل هو الذي يعرقل التطور البشري لأنه، كما قال جورج برنارد شو، يصر أن يتكيف العالم مع أفكاره وأساليبه في الحياة، لا أن يتكيف هو مع باقي العالم. وما كثرة هذه الأمثلة في الشرق الأوسط، فمشروع السلام تعثر بعد أن قتل متطرف رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحاق رابين، ونصف لبنان حرقت بسبب مغامرة مجموعة أصرت بأنها تملك الحقيقة المطلقة، وليبيا دمرت لأن زعيمها المغوار أصر أن يتكيف العالم مع جنونه، وإيران فلست بسبب رئيس "نجادي" أصر أن يتكيف الشعب الايراني وشعوب العالم مع لاعقلانيته.

وليسمح لي عزيزي القارئ أن أنتقل لمملكة البحرين لنتدارس كيف لعبت المعارضة المتطرفة "الغير عاقلة" دورها في محاولة لتدمير اقتصاد البلاد، بإصرارها بأن ينفذ الشعب البحريني رغبتها في الانقلاب على مملكة دستورية عصرية وليدة، وتغيرها لجمهورية ثيولوجية طائفية، وهي تجربة أثبتت فشلها في التاريخ منذ الثروة الفرنسية، وإلى الثورة الايرانية، وحتى مؤخرا ما سميت بالثورة "الإخوانية" في مصرنا العربية الحبيبة. وقد يتساءل البعض: من هي الشعوب التي ستقبل برجال يلبسون قناع الدين، وهم يركضون وراء كراسي الحكم لهيمنوا على السلطة، وليخلقوا حكومات دكتاتورية مطلقة، وبعذر كاذب، بأن الخالق، جل شأنه، عينهم لكي يحكموا أقدار البشر، وحياتهم الشخصية؟

لقد علمتنا العلوم الاجتماعية ضرورة الرجوع للتاريخ في الأزمات المعقدة، وحينما راجعت تاريخ الاصلاحات البحرينية مؤخرا، لفت نظري تغير خطاب المعارضة في البرلمان البحريني في عام 2007، والذي يمكن الاستفادة منه في هذه الأزمة، بعد أن تراجعت قرارها في ذلك الوقت عن مقاطعة البرلمان، وشاركت في انتخاباته لتفوز على 18 مقعدا من مجموع 40 مقعدا في المجلس النيابي المنتخب. وقد ترافقت تلك الخطوة بتطورات اقتصادية وسياسية واجتماعية في البلاد، بالرغم من زيادة الانشقاقات والاتهامات والتخوين بين الفئات المتطرفة في الجمعيات المعارضة. فلنراجع عزيزي القارئ ما نقلته صحيفة الوطن البحرينية في التاسع والعشرين من ديسمبر لعام 2007، عن رد أحد زعماء المعارضة في ذلك الوقت، على المعارضة المتطرفة، وسلوك العنف لبعض الشباب. فقد نصحت زعامة المعارضة في ذلك الوقت الشباب بالابتعاد عما يؤدي للانفلات الأمني، في ظل خيار الإصلاح الديمقراطي، مؤكدة ضرورة الحفاظ على الأمن، الذي يشكل خيارا استراتيجيا. كما أكدت بأن العنف لا يولد إلا العنف والإرهاب، بينما يوجه حوار الحكمة لفهم اختلافات الرأي، ويبعدها عن الخلاف، ويبني جسور الثقة، ويشجع عمل الفريق، لتزداد إنتاجية المجتمع وتطور اقتصاده.

كما وجهت زعامة المعارضة سؤال للشباب: "هل يجب أن تصبح المعارضة كالطفل الضائع تلحق بكل من يخرج في الشارع ويخترع برنامجه؟" وقد علقت على ذلك السؤال بقولها: "أن جماهير المعارضة لن تكون مجرد خشبة تغرز فيها الأفكار المخترعة، ولا الوقود لهذه الأفكار، ولن تجر لمعركة لا تؤمن بها، ولن تجر الأمة بكاملها لطريق بسبب تحرك.... مجموعة متطرفة للأمام." كما أكدت بأن خيار الإصلاح والعمل السلمي، والذي استغرق مدة ليتبلور ويتم تبنيه، "أصبح خيارا استراتيجيا،" مع إيمانها بأهمية العمل التدريجي في الإصلاحات الديمقراطية، ولكنها نصحت بتجنب الإبطاء. وحذرت الشباب عن خطورة الاندفاع العاطفي بالعمل الثوري، الذي قد ينعشهم في الخيال، ثم ينزلهم للواقع بخسارة مصالحهم، وبتضييع الوقت في الانفلات. واكدت بأن المعارضة ستستمر في العمل على استدامة الحريات والحقوق، والتي أعتبرتها محطة إستراتيجية ومحورية كي يتمتع الناس بحق التنظيم والتعبير بحرية، وبحق الاعتصام والمسيرات وبكل الحقوق السلمية.

كما نصحت زعامة المعارضة بالابتعاد عن العنف بعد اختيار طريق الديمقراطية منهجا لاستدامة الحريات، والاعتماد على السلوك الديمقراطي في التعبير. وحذرت بأنه لو فقدت هذه الديمقراطية التي تستمتع بها البلاد، ستعود البلاد عشر سنوات للوراء، وعلينا البدء بجولة جديدة من إرهاصات العنف، في ظل قراءة الواقع المحلي والإقليمي والدولي المعقد، والذي لا يعلم نتائجه إلا الخالق، جل شأنه. ولنعود بعد معركة طويلة إلى النقطة نفسها، لنطالب من جديد بالحريات التي نعيشها اليوم، والتي ستكون المحور الأساسي. كما وضح بأنه من الممكن ممارسة الخيار الإصلاحي بتهيئة الأرضية المناسبة للجمعيات وإفراد المجتمع للمطالبة بحقوقهم واهتماماتهم، حيث هناك قنوات مفتوحة للعمل السياسي والاجتماعي للمواطنين. وبأن خيار الإصلاح يستند على العمل الجاد الدؤوب، وبتحديد الأولويات، واختيار الأساليب المناسبة لمعالجتها. ومن الضروري التحرك بأدوات الواقع وليس بأدوات الشعر فقط أو أدوات الانفعال، وبالعمل على خلق أدوات القوة السلمية لدفع هذه الأولويات. وقد أنهت زعامة المعارضة خطابها في ذلك الوقت بالقول: "هذا هو الخيار حسب فهمنا وقناعتنا، كما ناقشنا هذا الأمر على مستوى المعارضة والنخبة. فهذا النوع من العمل يراكم الايجابيات، ويزيل السلبيات، ويؤدي بعملية الإصلاح للتقدم إلى الأمام."

وباختصار شديد فقد نصحت زعامة المعارضة البرلمانية الشباب في عام 2007 بالاهتمام بالتعليم والعمل المتقن، والابتعاد الانفعالات العاطفية، وعدم استخدام العنف المرفوض عالميا كوسيلة للتعبير، والاعتماد على الأدوات الديمقراطية المتوفرة. كما طالبت الشباب بالصبر والتأني لأن الإصلاحات الديمقراطية بطبيعتها تدريجية، ورفضت التغيرات الثورية المفاجئة التي أثبتت التجربة غلاء تكلفتها الاجتماعية والاقتصادية، وسلبية نتائجها الطويلة الأمد، مع بروز ديكتاتوريات جديدة مرعبة منها.

وليستغرب الإنسان كيف انقلبت هذه الأفكار والمفاهيم رأس على عقب في عام 2011، لتقوم فئة من هذه المعارضة العمل على الانقلاب ضد المملكة الدستورية، والمطالبة بجمهورية ثيوقراطية على الغرار الإيراني، ولتحاول ان تعرض مملكة البحرين للفوضى الخلاقة، التي عانت منها العديد من دولنا العربية. ولنراجع عزيزي القارئ بعد خمس سنوات من ما سمي بسنامي "الربيع العربي" الذي تعرضت له منطقة الشرق الأوسط، من الدمار الليبي والحرب اليمنية، وإلى التوحش الداعشي في العراق وسوريا، وحتى الأزمة النفطية، فقد برز تطور جديد في نفس البلد التي بدأ منها شرارة سنامي "الربيع العربي" وهي دولة تونس الحبيبة، فيبدو بأن حزب النهضة التونسي استفاد من تجربة السنوات الخمس الماضية ليعلن هذا العام عن تصورات جديدة حول الانتقال من حزب سياسي إسلامي إلى حزب المسلمين الديمقراطيين، والذي عبر عنه زعيم حزب النهضة التونسي، الأستاذ راشد الغنوشي، في مقال في شهر اكتوبر الماضي، بالمجلة الدبلوماسية الأمريكية "الفورن أفيرز".

يقول الأستاذ راشد الغنوشي، في مقاله: "لقد اعلن حزب النهضة التونسي عن مجموعة من التغيرات، تتمثل في قراره بالتركيز على السياسة فقط، وترك النشاطات الاجتماعية والتعليمية والثقافية والدينية. فقد تجنب الحزب في السنوات الاخيرة هذه النشاطات تدريجيا، اعترافا منه بأنه يجب أن تهتم بها مؤسسات المجتمع المدني المستقلة عن السياسة الحزبية، وبذلك لن تتحمل عناصر حزب النهضة المسئوليات المتعلقة بالوعظ والإرشاد في المساجد، ولا قيادة الجمعيات المدنية المجتمعية، كالجمعيات الدينية والخيرية. فهدفنا فصل اختصاص السياسة عن اختصاص الدين، كما نعتقد بأنه لا يستطيع أي حزب سياسي، بل لا يحق لأي حزب سياسي أن يمثل الدين، بل يجب أن تدار القضايا الدينية من قبل مؤسسات مستقلة ومحايدة. وببساطة شديدة، يجب أن يكون الدين موضوع غير حزبي، بل نريد المسجد لأن يكون مكان يجمع تناغم أبناء الوطن، لا مكان للفرقة والطائفية."

ويكمل الأستاذ الغنوشي ليقول: "كما يجب ألا يكون لرجل الدين أي موقع في الجمعيات السياسية، بل يجب تدريبه كمتخصص في مجال الدين، لكي يجمع بين المهارات والثقة التي يحظى بها علماء الدين الأفاضل. فحاليا هناك فقط 7% من رجال الدين في تونس حصلوا على نوع من التدريب الديني المتخصص. كما وافق حزب النهضة أيضا على استراتيجية شاملة... تضم ضمنيا الإدارة الجديدة في المؤسسات الدينية. وعلينا أن نتفهم اليوم بأن حزب النهضة التونسي ليس حركة اسلامية، بل حزب المسلمين الديمقراطيينن، لكي نعمل على خلق حلول للمشاكل الحياتية الاقتصادية اليومية التي يواجهها التونسيينن ،بدل الوعظ والإرشاد عن الآخرة.. وحسب الدستور الجديد، فجميع التونسيون يتمتعون بحقوق مشتركة بمختلف عقائدهم، كما أن فصل الدين عن السياسة سيقي من تلاعب مسئولي السلطة في استخدام الدين ضد المواطنين، وسيحقق للمؤسسات الدينية استقلاليتها. وأيضا سيساعد فصل الدين عن السياسة في معالجة الإرهاب.. كما أن فصل الدين عن السياسة، مع الإدارة الفعالة للمؤسسات الدينية، ستسهل تعليم ديني أفضل، وسيقدم تفكير إسلامي معتدل لتونس."

تلاحظ عزيزي القارئ، كيف جرفت المعارضة المتطرفة "اللاعقلانية" الشأن البحريني لما هو اليوم، بعد ما استغلت بعض شباب المراهقة، ودفعتهم لوسائل عنف مرفوضة عالميا. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل حان الوقت لأن تقييم المعارضة البحرينية ما حققته لبلادها اقتصاديا خلال العقد الماضي؟ وهل أدى خلط الدين بالسياسة لنشر الطائفية في البلاد؟ ألم تثبت تجارب التاريخ بأن أخلاقيات رجال الدين وروحانياتهم المطلقة، يجب أن تكون سببا لابتعادهم عن دهاليز السياسة النسبية والمتقلبة والانتهازية؟ وهل حان الوقت لنحدد تعريف من هو عالم الدين؟ وهل حان الوقت لأن تتحول المعارضة السياسية إلى معارضة وطنية بناءة ولكل أبناء الوطن، ليس لطائفة معينة، لتلعب دورا في تحقيق التنمية الاقتصادية في البلاد، وذلك بخفض نسب البطالة، ومضاعفة دخل الفرد، وتطوير الصناعة التكنولوجية؟ وهل ستقوم المعارضة بتشجيع الشباب على العلم والعمل المخلص والإنتاجية المبدعة، وتطهير عقولهم من الخرافات التي أضعفت إبداعاتهم وخفضت انتاجيتهم؟ وهل ستشارك المعارضة في البرلمان القادم بشخصيات تكنوقراطية عقلانية حكيمة مخلصة، وذي خبرة واسعة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية؟ وهل ستلعب دورا في ترسيخ ثقافة مجتمعية تبنى على التطور التدريجي لمملكة البحرين إلى مملكة دستورية عصرية مزدهرة، وبقيادة مليكها المحبوب؟ ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابا