عُنيت خطة التنمية الخماسية الرابعة في الإتحاد السوفياتي 1946 – 1950 بإعادة إعمار ما دمره العدوان الهتلري الغادر والوحشي، ولذك لم يعقد المؤتمر العام التاسع عشر للحزب للتصديق على بنود الخطة الخمسية الرابعة التي قرر مندرجاتها العدوان الهتلري وليس الشغيلة كما في المقتضى ؛ هذا من جهة ومن جهة أخرى فقد انعكست أحقاد النازية والفاشية بحربها الهمجية على الاتحاد السوفياتي على الحزب الشيوعي وبنيته التنظيمية بصورة خاصة حيث كان الحزب قد هبّ بكوادره المختلفة متقدماً كل الصفوف لصد العدوان النازي المفاجئ فلحقت به خسائر فادحة وتقطعت أوصاله قبل أن تصل جيوش الغزاة إلى أسوار موسكو ولينينغراد، فالحزب كان الجسم الذي تلقى الضربة الأولى بأشد وحشيتها.

ليس لنا للمحللين الموضوعيين اعتبار دعوة ستالين لعقد ندوة تضم قادة الحزب والدولة مع أخصائيين في الاقتصاد في العام 1951 تبحث في القضايا الاقتصادية للإشتراكية في الاتحاد السوفياتي على أنها تعبير عن شكوك ستالين في مقدرة منظمات الحزب المستجدة في مناقشة محددات الخطة مع العمال في المصانع ومختلف مؤسسات الإنتاج فقط، بل هي أبعد من ذلك، إنها إهتزاز ثقة ستالين بالحزب بعد الحرب. ويزيد من تلك الشكوك أن يطرح ستالين في المؤتمر العام للحزب في العام 52 تبديل قيادة الحزب بجميع أعضائها بمن في ذلك ستالين نفسه مؤكدا أن الثورة الاشتراكية لن تصل إلى أهدافها بمثل تلك القيادة. لقد عبر ستالين سواء في الندوة عام 51 أم في المؤتمر عام 52 عن هواجسه حول أخطار حقيقية تحيق بالثورة الاشتراكية. في خطابة إحتفاء بالذكرى الرابعة والعشرين لثورة أكتوبر في 7 نوفمبر 1941 حين كان يحيط بموسكو ملايين الجنود النازيين مسلحين بأحدث الأسلحة طمأن ستالين السوفياتيين بألا يقلقوا على مصائر الثورة وأن الجيش الأحمر سيبيد قطعان النازيين ؛ وبالمقابل ها هو ستالين نفسه يخاف على الثورة في العام 1952 وينبه إلى أخطار حقيقية تحيق بها بعد أن أباد قطعان النازيين واحتل نصف القارة الأوروبية بما في ذلك برلين، وبعد أن أعاد إعمار الاتحاد السوفياتي إلى أجمل مما كان. وهنا سؤال كبير يفرض نفسه وهو.. ما هي الأزمة في الاشتراكية السوفياتية التي يراها ستالين بعد أن حقق انتصارات مدهشة في تطوير الثورة الاشتراكية وهو متعهد بنائها ولا يراها أحد غيره؟

حقيقة أن ستالين لم يتخوف علىى الثورة عندما كان النازي على أسوار موسكو في العام 41 ثم يعود والجيش الأحمر في قلب برلين يبدي قلقاً جديّاً على مصائر الثورة تطرح مسألة في غاية الأهمية على الباحثين. قبل الغوص في تحليل تلك المسألة الهامة تحسن الإشارة إلى الخواء الفكري الذي تعبر عنه أطروحتان يلوكهما دون انقطاع كتبة البورجوازية الوضيعة التي تقول إحداهما أن الإنهيار وقع بسبب بيروقراطية الحزب الحاكم وعلى رأسه ستالين، وتقول الثانية أن الانهيار كان النتيجة الطبيعية لأن ثورة أكتوبر كانت دخيلة على المجتمع الروسي المتخلف. مثل هذه التخرصات قمينة بالهزؤ وبأن تفضح أصحابها. فالبيروقراطية بفهومها الواسع لا يمكن أن يكون لها مكان في الحرب خاصة وأن الجهود التي بذلها الاتحاد اليوفياتي حتى الانتصار في الحرب تتعدى كل التصورات في التضحية والصمود، ولا في إعادة الاعمار التي كانت مثلاً بكل المقاييس. أما أطروحة الانهيار بسبب التخلف الموروث فليس هناك أكثر بهتاناً من هذه الأطروحة، فمنذ العام 1943 كان الاتحاد السوفياتي يطرح في المعارك أسلحة تساوي ثلاثة أضعاف ما تطرحه ألمانيا يساعدها العديد من الدول الأوروبية إن بالكم أم بالكيف وهو ما شهد به العسكريون الغربيون، وفي نهاية الخمسينيات لم يكن يسبق الاتحاد السوفياتي في الانتاج الصناعي غير الولايات المتحدة. ما يثير الأسى حقاً هو أن عامة الأحزاب الشيوعية تتبنى مثل هذه الاطروحات الإنهزامية الجوفاء.


الأزمة الخطيرة المستفحلة هناك والتي أدركها ستالين ولم يدركها غيره هي قوامة الحزب الشيوعي ومتانة وحدته ؛ الحزب الشبوعي صبيحة الحرب لم يكن بالطبع بذات القوامة والصلابة عشيتها. الأكلاف التي تكلفتها الشعوب السوفياتية للوقوف بوجه العدوان النازي الغادر والهمجي قبل أن تكون البلاد مستعدة للحرب كانت من نصيب الحزب الشيوعي. في الحقيقة ليس هناك ما يشير إذا ما كان الحزب قد قام بدراسة حول خسائره في الحرب، ويبدو أنه لم يفعل، وحتى لو فعل لما كشف عنها ستالين حتى لرفاقه في القيادة، فقد لعبت السرية دوراً هاما في النهج الستاليني الذي نجح أيما نجاحاً في تطوير الثورة الاشتراكية غير أن السرية، والتي كانت غريبة على نهج لينين، انعكست سلباً على انجازاته. بلغت خسائر السوفييت في الحرب حوالي 25 مليون نسمة منهم ليس أقل من 10 أو 8 ملايين من خيرة أعضاء الحزب الشبوعي. جند الاتحاد السوفياتي في الحرب الوطنية 16 مليون جندياً منهم 16000 جنرالاً ومارشالاً كي يكسب الحرب. هؤلاء الملايين المدربون على مواجهة مختلف الأخطار بما في ذلك المواجهات المسلحة ليسوا من البروليتاريا ولا يمكن أن يقبلوا تحويلهم إلى بروليتاريا، وعليه هم بنيوياً ضد الاشتراكية التي تقتضي هذا التحويل. لكن ما كان يحول دون قيامهم بأي نشاط معادٍ للإشتراكية هو ستالين بشخصه الذي امتلك مهابة ونفوذا لم يمتلكهما أي قائد عبر التاريخ وهو الحارس اليقظ لدولة البروليتاريا طالما عيناه لم تغمضا في النوم.

كان ستالين يعي عمق الأزمة البنيوية المستفحلة في المجتع السوفياتي بعد الحرب. صحيح أن الإتحاد السوفياتي إنتصر في الحرب على الصعيد الدولي لكن النتيجة على الصعيد الداخلي كانت "هزيمة" للبروليتاريا والشيوعيين نظراً للخسائر الهائلة التي لحقت بهم. طبعاً ما كان ستالين يملك تلك المهابة وذلك الجبروت بغير الحزب فكل الإتجازات الجبارة من مثل القضاء على الأميّة نهائياً في كل الاتحاد السوفياتي خلال خمس سنوات 1922 – 1927، والاستغناء عن اقتصاد النيب ووصول الانتاج إلى مستوى ما قبل الحرب (1913) خلال أربع ستوات 1922 – 1926، وإنجاز الخطة الخمسية الأولى في أقل من أربع سنوات 1928-1932، والقفزة الكبرى بتحويل الزراعة الفردية إلى زراعة تعاونية خلال 3 سنوات 1929 - 1932 بل وحتى الانتصار الباهر في الحرب الوطنية إنما تمت بقوة الحزب الذي كان حتى في العام 1917 القوة التي لا تقهر وقد هزم 19 جيشاً لأربع عشرة دولة تضم جميع الدول الرأسمالية الكبرى. في المؤتمر الثامن عشر للحزب 1939 وقد بات واضحاً أن أمن الاتحاد السوفياتي هو المستهدف من قبل الرأسماليين والفاشيين في مؤتمر ميونخ، توجب إزاء ذلك الإقلاع عن سياسة الصراع الطبقي وهو محرك عبور الإشتراكية من أجل تصليب الوحدة الوطنية بين البروليتاريا من جهة والبورجوازية الوضيعة من جهة أخرى وهو ما أدى إلى تكاتف الطبقتين في الحرب كما في إعادة الإعمار.
الأزمة الخطيرة التي كان تجاوزها يقتضي العمل عكس قواعد التاريخ هي استئناف العبور الإشتراكي من خلال الصراع الطبقي حصراً. المأزق الصعب أو الأحرى المستحيل الذي فرض على ستالين مواجهته هو كيف استئناف عبور الاشتراكية وقد غدت الطبقة البورجوازية الوضيعة هي الطبقة الغالبة وليس طبقة البروليتاريا وطليعتها الحزب الشيوعي. كان ستالين لا يتهرب من واجباته كما كان يؤكد ؛ وفي تلك الحالة كان واجبه الأول حماية الثورة الاشتراكية وتأمين تقدمها رغم كل الشروط المعاكسة، وقد ظن كعادته أنه يستطيع تجاوز الأزمة دون الإفصاح عنها علانية فيعترف بالشروط المعاكسة. ذلك ما دعاه إلى الدعوة إلى ندوة يعقدها الحزب الشيوعي خلافاً للعادة تبحث في "القضايا الإقتصادية للإشتراكية في الإتحاد السوفياتي". المفاجئ في تلك الندوة أن ستالين وهو أول من قال بمبدأ اشتداد الصراع الطبقي كلما تقدم العبور الاشتراكي، يهدئ من حماس أغلب المنتدين لاستئناف الصراع الطبقي بأشد صوره بدءاً بإلغاء طبقة الفلاحين بقرار حاسم من الدولة. كتاب ستالين المخصص لتلك الندوة التاريخية يشرح خطر اشتداد الصراع الطبقي على الثورة. تلك هي نقطة البداية لكل من يتنطح للبحث في أسباب انهيار أقوى دولة عبر التاريخ بمظاهرة لم تضم أكثر من مائة شاب من الأفاقين!

ستالين الذي وصفه من عرفه عبر أخطر الأزمات مثل تشيرتشل ومولوتوف بأنه العملاق والعبقري رأى أنه بالإمكان تجاوز ذلك المأزق المستحيل عبر الخطة الخمسية الخامسة. كان ستالين يرى إمكانبة تحويل الجبروت الحربي للإنحاد السوفياتي إلى جبروت مدني وهو ما كان قد هدد به الدول الغربية لدى تشكيل حلف شمال الأطلسي. وعدت الخطة الخمسية الخامسة 1951-1955 برفع مستوى حياة الناس إلى الضعف أو حتى ثلاثة أضعاف. وإزاء ذلك الوعد الجاد لم يكن بإمكان البورجوازية الوضيعة السوفياتية أن تعارض المشروع علانية. كان مشروع الخطة يقضي بتحويل الصناعة السوفياتية من الصناعات الثقيلة إلى الصناعات الخفيفة. وافق المؤتمر العام التاسع عشر للحزب في نوفمبر 1952 على الخطة تبعاً لإطروحة ستالين القائلة.. " آن لشعوب الاتحاد السوفياتي أن تنعم بالرخاء والرفاهية بعد طول عناء وشقاء الحروب! " 
ليس ثمة أدنى شك في أن الحزب والدولة بقيادة ستالين كانا سيحققان الخطة بكل أهدافها في العام 1955، إلا أن البورجوازية الوضيعة لم تنتظر حتى يهيل ستالين التراب عليها في القبر فكان أن تمكنت أن تهيل عليه التراب في القبر وتغتاله بالتسميم في 28 فبراير 1953 وتلغي الخطة الخمسية بعد ستة شهور في سبتمبر وتستبدل إنتاج حاجات الناس بإنتاج الأسلحة. كانت البورجوازية الوضيعة السوفياتية وعلى رأسها العسكر تدعي أنها في سباق للتسلح مع الولايات المتحدة وهو كذب صراح حيث تسخير كل الاقتصاد السوفياتي لإنتاج الأسلحة كان هو السياسة الوحيدة التي تعمل ضد الاشتراكية.
في الحقيقة أن الخطة الخمسية الخامسة التي اقترحها ستالين كان لها هدفان، الهدف الأول الذي احتفظ به ستالين سرا مكتوماً وهو مضاعفة أعداد البروليتاريا لاستعادة قبضتها الفولاذية على دولة دكتاتورية البروليتاريا بعد أن اعتراها الوهن بفعل خسائر الحرب، والسبب الثاتي المعلن وهو تحسين حياة الناس.
لعل السرية التي كتمت هدف ستالين الأول ارتدت وبالاً على ستالين ومشروعه قبل أن تنتهي إلى تفكيك مشروع لينين في الثورة الاشتراكية العالمية. لو أعلن ستالين هدفه الأول قبل الثاني لكان أن تنبهت البروليتاريا وكوادر الحزب على ضعفها إلى عمق الأزمة والأخطار المحيقة واتخذت حذرها في حماية الحزب والدولة ولما تجرأت عصابة بيريا-النكوف- خروشتشوف على اغتيال ستالين بالسم وهو ما أدى بعد أربعة عقود طافحة بالسلاح إلى انهيار مشروع لينين في الثورة الاشتراكية العالمية.