مسيحيو المشرق (مناطق سكناهم - كنوز وشواهد حضارتهم - كنائسهم وأديرتهم القديمة)، شامخة في وسط وقلب عواصم ومدن دول المشرق،الكثير منها مازال يحمل اسماء وبصمات ( سريانية آشورية، آرامية، قبطية) تعود الى ما قبل ظهور المسيحية بعشرات القرون. لهذا (مسيحيو المشرق) ليسوا بحاجة الى مراجع ومصادر تاريخية، ليثبتوا بانهم أصل هذا المشرق وأقدم شعوبه. رغم المساوئ الكثيرة، لأنظمة القمع والاستبداد والدكتاتورية في دول المشرق، هذه الأنظمة وفرت شروط الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والأمن النسبي للمسيحيين ومنحتهم هامش مقبول، يتفاوت من دولة لأخرى، للحريات الدينية والاجتماعية. بيد أن، ما سمي بـ"الربيع السياسي العربي"، الذي سرعان ما تحول الي "ربيعٍ دامٍ"، بدلاً من أن يحرر شعوب المنطقة من أنظمة الاستبداد، حرر الاسلام السلفي المتشدد من عقاله وبدأ هذا الاسلام يغزو مجتمعات المنطقة، مستغلاً الفوضى الأمنية والسياسية التي تسببت بها هبات الربيع العربي. ليس من المبالغة القول: أن تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) الأكثر توحشاً بين التنظيمات والحركات الاسلامية المتطرفة وهو نتاج الربيع العربي، أعاد بالمنطقة الى زمن الغزوات الاسلامية، ايقظ الذاكرة التاريخية الاليمة لنحو 15 مليون مسيحي مشرقي، جعلهم يعيشون هاجس الخوف من مستقبل مجهول ينتظرهم، يواجهون خطر الاقتلاع من الجذور والاستئصال الجماعي من أوطانهم الأم. 
الرئيس السوري الراحل (حافظ الأسد)، رغم العنصرية القومية لنظامه البعثي العروبي، لدى استقباله "أعضاء المجمع المقدس للسريان الارثوذكس" في 17-3- 1997، قال:" ايها السريان, سوريا بلدكم اينما كنتم وهذا حقكم, وعندما أقول هذا، لا أعطيكم ما ليس لكم". صحيح، أن كلام الاسد لم يترجم الى اعتراف دستوري بـ"القومية الآشورية" للسريان الآشوريين، لكن كلامه هو اعتراف ضمني منه بالعمق التاريخي للوجود السرياني(الآشوري) في سوريا. لكن في زمن الربيع العربي، بعض المعارضين السوريين،دعاة الديمقراطية والمساواة وحقوق الانسان، نعتوا مسحيي سوريا بـ"بقايا الصليبيين". معارضون آخرون تساءلون: كيف للمسيحيين السوريين أن يطالبوا بوطن يحقق لهم تطلعاتهم ويضمن لهم حقوقهم، دون المساهمة في صنعه؟. أي دون مشاركة المسيحيين في القتال الى جانب مسلحي المعارضة ضد الدكتاتورية الأسدية. لا أدري، هل المساهمة في بناء وصناعة الوطن السوري تتم من خلال تشكيل ميليشيات وزج بالمسيحيين في نزاع مسلح على السلطة وفي حرب أهلية كارثية على البلاد والعباد؟؟. هل امتلاك المسيحيين "ميلشيات طائفية" تنهش بجسد الوطن وتدمر كل ما بناه السوريون على مدى قرن كامل، بات شرطاً لمنحهم حقوقاً في وطن منحوه اسمه، ساهموا في استقلاله وازدهاره؟؟. رحلت الدكتاتورية الأسدية أم بقيت، عدم تشكيل المسيحيين السوريين ميليشيات طائفية خاصة بهم،كما فعلت بعض المكونات والجماعات السورية، هي مواقف وطنية مشرفة ومحطات بيضاء، سيضيفها التاريخ الى سجلهم الوطني الذهبي. لبنان، أجمل بلدان المشرق، عندما كان المسيحيون يشكلون غالبية سكانه وتقوده "المارونية السياسية"، كان يوصف بـ" سويسرا الشرق". بعد الحرب الأهلية (1975-1989) وما أحدثته من تغير ديمغرافي وتقليص سلطة الموارنة المسيحيين لصالح المسلمين السنة والشيعة، بدأ لبنان يتراجع في الديمقراطية والمدنية، اللتان تميز بهما من بين بلدان المشرق. جنوبه، ذات الغالبية الشيعية، بات" قم العرب". شماله، ذات الغالبية السنية، في طريقه ليصبح" قندهار العرب". المسيحيون، يحلمون بالعودة الى " لبنان الصغير المسيحي" بعد أن خذلهم لبنان الكبير.
لا نزعم بأن "الديكتاتوريات الدموية" هي أفضل للمسيحيين من الأنظمة الديموقراطية. بيدا أن ما سمي بـ"ثورات الربيع العربي"، التي رفعت شعارات الحرية والديمقراطية والمساواة، زعزعت الاستقرار النسبي لمسيحيي المشرق وخيبت آمالهم فيما يتعلق بمشروع الدولة المدنية الديمقراطية(دولة المواطنة) التي يطمحون اليها، باعتبارها الخيار الأفضل والأنسب لبقائهم في أوطانهم. حتى الديمقراطية (ديمقراطية الغالبية العديدة الطائفية) التي جاء بها الربيع العربي الى بعض بلدان المشرق، مثل مصر، لم تحدث اي تغيير او تبدل نوعي في الأوضاع السياسية والحقوقية والقانونية لمسيحيي هذه البلدان. لا بل هذه الديمقراطية المشوهة ضاعفت مشاعر الاحباط والياس عند المسيحيين. إذ، جعلتهم اكثر تهميشاً وتغيباً عن الحياة العامة وعن صنع القرار الوطني لبلدانهم. كيف يمكن لمسيحيي المشرق، الاطمئنان لمستقبلهم ولمصيرهم، وحصادهم من الربيع السياسي العربي، حتى الآن: خطف وذبح الآلاف منهم، بينهم مطارنة وكهنة وراهبات. سبي وبيع آلاف المسيحيات. حرق وتدمير عشرات الكنائس والأديرة وكنوز تاريخية حضارية. هجرة أكثر من مليون مسيحيي، معظمهم من العراق وسوريا ومصر.

باحث سوري مهتم بقضايا الاقليات
[email protected]