ظاهرة السياسة الشعبوية والتي تمثلها احزاب سياسية يمينية حاليا، تحقق انتصارات غير متوقعة في المانيا وفرنسا، وادت الى دعم خروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي وفوز دونالد ترامب بالرئاسة الامريكية ولاول مرة من خارج الطقم السياسي، حيث ان سجل الرئيس المنتخب ترمب يخلوا تماما من تسنمه اي منصب حكومي او منتخب له مثل عضوية البرلمان او مجلس الشيوخ اوحاكمية ولاية ما.
يمكن القول اختصارا ان بروز ظاهرة الشعبوية، هو نتاج انفراط الثقة بالنخبة السياسية والاقتصادية، فالنخب السياسية تميل الى تحليل الظواهر ومحاولة ايجاد حلول بعيدة الامد لاي ظاهرة سلبية او مواقف سياسية سلبية، فيما يحاول الشعبويين، اللجوء او الادعاء باللجوء الى حلول جذرية وسريعة. والشعبوية هي نوع من الخطاب السياسي الديماغوجي يدغدغ عواطف الناس ويحشدهم لكي يقف بالضد من كل من يعارضه.
ومن المفيد ان الشعبوية ليست حكرا على نظام معين او بلد معين، فالانظمة العروبية كانت في غالبها من هذا النمط، فهذه الانظمة دغدغت مشاعرالناس، بتحقيق انتصارات كبيرة وعظيمة. ولا يحتاج الامر الا اطاعة القائد. او اعتناق ايديولجية معينة. والشعبوية اتسمت بها ايضا المرحلة الاولى من الثورات الاشتراكية، حيث دغدغت عواطف الناس بخلق عالم خالي من التماييز الطبقي. ولعل الرئيس الفنزويلي شافيز وخلفه كانوا خير مثال للشعبوية في بقية دول العالم الثالث.
وكما سبق ونوهنا فان الشعبوية موجودة في الغرب المتمتع باستقرار اقتصادي وسياسي مستمر منذ الحرب العالمية الثانية، وان شهد خضات معينة الا ان هذه الخضات لم تهز النظام ابدا. ولكن الشعبوية تأتي من ناحية لتضخيم هذه الخضات الاقتصادية او مشاكل سياسية وتمنحها بعدا تأمري، لكي تبرر لنفسها الدور الانقاذي الذي تدعيه.
الخلاف في الشعبوية بين النظم التي تتحكم او التي تحكمت في منطقة الشرق الاوسط والدول التي لا تمتلك تقاليد ديموقراطية، وبين مثيلاتها في الدول الديمقراطية، فارق كبير في اسلوبه ونتائجه. فدول الشرق الاوسط ابتلت بظاهرة الانظمة الشعوبية منذ انقلاب 23 يوليو (تموز) في مصر وبروز ظاهرة جمال عبد الناصر، واعتماده على الخطب المثيرة لمقارعة الاعداء المفترضين، لا بل افتراضه الاعداء على اسس دينية وقومية. فالشعوبية هنا ادت الى تسليم الامر كله الى القائد الشعبوي، هو الذي يسن ويشرع ويقرر ويحكم ويقاضي. هو من يحدد الوطني وغير الوطني، لا وجود للرأي الاخر بحجج مختلفة ولعل اولها المرحلة المصيرية ومحاربة الاعداء. وخلال سنوات طويلة امتدت خمسون سنة تقريبا، تلونت وتطورت وتسلحت الشعبوية باسلحة مختلفة، اعلامية واستخبارايتية وامنية. مما ادى الى تمكنها من خنق اي دور او راي لاي شخص ثاني، مما اصاب المنطقة بالعقم، وسد ابواب التطور امامها. في حين ان الشعبوية الحالية او ما بعد الحرب العالمية الثانية في الغرب والتي تمثلت في بعض الاحزاب اليمينية، وفي اميركا والتي تمثلت او ابتدأت برونالد ريغن، انها شعبوية شعاراتية، تخضع لمتطلبات مصلحة الدولة وللمساومة السياسية بين الكتل المختلفة، اي انها لا تفرض رايها او خططها على الجميع. وبالتالي فان نتائجها تكاد ان تكون غيرمنظورة الا في زيادة الهمم ورفع الشعور الوطني، امام حالة من الانهزام المفترض او المفروض نتيجة تجربة سياسية او اقتصادية فاشلة. وبالعودة الى رونالد ريغن، فان فترة حكمه كانت ردا على تانيب الضمير الذاتي استفحل بعد حرب فيتنام ونتائجها. ولقد حققت فترة ريغان لامريكا الانتصار الحقيقي على الذات ومن ثم على اغلب القوى العالمية، بحيث تم اعادة وترسيخ دور الولايات المتحدة الامريكية، حتى ان ما انجزه كلنتون وبوش الابن في السياسية الخارجية كان يعتاش ويتسمد قوته الحقيقة من مرحلة ريغان التي امتدت على مدار ولايتيه و ولاية جورج بوش الاب.
ولكن عن اي انتصار بعد هذا نتحدث، وخصوصا في تجارب العالم الثالث. بالحقيقة في العالم المتقدم هناك انتصاران، وهو النجاح في الانتخابات ومن ثم استلام السلطة، ومن ثم الخضوع لمتطلبات المصلحة الوطنية العليا، والتي يحددها مختلف الاطراف والامناء عليها هم الخبراء والموظفون الدائمييون ذو التجربة والمستندين الى دراسات وتجارب سياسية كثيرة. كمثال دونالد ترامب الذي رأيناه ورغم رفعه شعارات معادية او فسرت بانها معادية للاجانب، ومعادية لاوباما كير، فانه اول خطوة خطاها، كانت حذفه رابط خطابه حول المسلمين كاشارة لعلامة التغيير وتصريحة بان مشروع اوباما للتامين الصحي يمكن ان يتم تطويره وليس الغاءه. هنا ان الشعوبية تستغل شعور الجماعات بانها مغيبة عن القرار السياسي وان هذا القرار يتم تهيئته في غرف خلفية لا يعلم احد ما يدور فيها. وهذا ناتج في الغالب عن الاعلام السهل الذي صار هو الملجاء لاغلب الناس ممن يريد المعلومة الجاهزة. ولكنها تعمل في اطار المصلحة العليا وتحافظ على الامن القومي، الذي لا يعني لديهم الجيش والحدود، بل الانسان والاقتصاد ومن ثم الحدود.
اما الانتصار الشعبوي في دول العالم الثالث، فيتأتي من افتراض اطراف معينة، انها الوحيدة التي تمتلك الروح الوطنية التي لا غبار عليها، وكل الاخرين اما عملاء او خونة او ذوي مصالح خاصة. ومن هذا الافتراض، يتم البناء على ان التغيير يجب ان يكون بتغيير السلطة من خلال استلامها وتسخيرها للشعب. واولى الخطوات تكون بقرارات تفسر لصالح الشعب مثل زيادة الرواتب الغير المحسوبة، والتي يهلل لها البعض والتي تاتي بالتضخم وانخفاض اسعار العملة، ولا تنتهي الا بالديون وسدادها والتي تحتاج الى ديون اخرى والدوران مع عجلة لا تنتهي بل تزيد. ومن ثم تهيئة الشعب للمعركة المقبلة ولا احد يعلم اين ستكون، لان الوطن والثورة مهددة، وتغييرات دراماتيكية في التوجهات السياسية الخارجية.
اذا ظاهرة الشعبوية والخطاب الشعبوي تحقق انتصارات معينة، ولكنها في الغرب مسيطر عليها، ويمكن ان تتأقلم مع المصالح العليا للبلاد، لان هذه البلدان تحكمها مؤسسات عديدة وليس مؤسسة واحدة. بما يعني ورغم ان الظاهر ان الرئيس كمثال الرئيس الامريكي يمتلك صلاحيات كثيرة جدا، الا ان الامريكيين يدركون انه لا يحكم وحده، بل معه الكونكرس بمجلسيه والمحكمة العليا والولايات واللوبيات والمؤسسات الاقتصادية والصناعية والنقابات العمالية. كلها لها دور لانها تمثل القوى العامة للشعب الامريكي. اما في العالم الثالث فانها تؤدي الى حكم الفرد، وقد تصل الى ان الفرد يمكن ان يتخلص من رفاقه وممن حوله، لانه صار السلطة والسلطة صارت هو.
[email protected]