أتت كلمة الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق أمام مجلس الأمن، وإشادته بتقدم القوات العراقية والبيشمركة والحشد الشعبي والمتطوعين من أبناء العشائر في معركة تحرير الموصل، شهادة حق من شخصية محايدة، ستُغضب الكثير من المشككين بوطنية المقاتل العراقي، ومُتّهميه بالطائفية من منظورهم المذهبي، وأكدت أن هناك ولادة جديدة للعراق، مع بداية النهاية لخلافة داعش الدموية الظلامية في العراق والشام.

اليوم يمكن القول إنه في عمليات تحرير الموصل وما سبقها من عمليات التحرير، كان دعم المواطن العراقي أفضل تجسيد لحقيقة أن تحرير العراق معركة كافة العراقيين، في وحدتهم من أجل مستقبل بلادهم، باعتبارها البيت الذي يجمع الشعب العراقي كافةً، ومن كل المكونات والجماعات والأقليات العرقية والدينية، لتعيش سويةً في جو تعمُّه قيم العدالة والمساواة والسلام والتسامح. وليس سراً أن الشعب العراقي يقاتل نيابة عن البشرية كافة، دفاعاً عن القيم الإنسانية التي يؤمن بها العالم أجمع، ضد الإرهاب والتعصب اللذين تمثلهما داعش وأسسها الفكرية، في معركة طاحنة الأولوية فيها لحماية المدنيين، على نحو لم يسبق له مثيل في التخطيط للعمليات العسكرية وتنفيذها، وضمن إدراك تام لالتزامات بغداد وتعهداتها المحلية والدولية، والتزاماً منها ببيان المرجعية القوي بهذا الخصوص.

ليس سراً أن تداعي خلافة داعش وهزيمة هذا التنظيم الدموي ليست نهاية الأمر، إذ من الضروري والواجب استعادة وتعظيم انتماء العراقيين لوطنهم، بدل الانتماء للمنطقة والعشيرة والمذهب، من خلال القيام بإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية، وبسط سلطة القانون والنظام، وكبح نشاطات المجموعات الإجرامية والفساد والمحسوبية، وإذا كانت الديماغوجية الداعشية لعبت بعقول البعض، فإن الواجب يدعو للانتباه إلى ما زرعه التنظيم من خرافات في أذهان هؤلاء، وخصوصاً آلاف الصبية والفتيات الذين غسل الدواعش أدمغتهم على مدى أكثر من عامين، وتلك مهمة مُلقاة على عاتق قادة المجتمع، المُطالبين بالتوصل إلى أسلوب للتعايش في جو تسوده العدالة والمساواة للجميع، عبر مصالحة حقيقية، بما هي السبيل لتحقيق ديمومة الانتصارات العسكرية على داعش، وللحفاظ على العراق آمناً وموحداً، وهو مطلب كل العراقيين الشرفاء.

على الأرض لن تكون مجدية كل الأعمال الإجرامية التي تقوم بها داعش، كحفر شبكة أنفاق وزرع العبوات الناسفة وبناء التحصينات، واستخدام أساليب إرهابية ضد المدنيين، وحرق حقول النفط والكبريت وتدمير الطرق والجسور، وإجبار عشرات الآلاف من العراقيين على ترك منازلهم، ونقل المدنيين قسراً إلى داخل المدينة واستخدامهم كدروع بشرية، وقتل المدنيين الرافضين لتعليماته أو المنتسبين السابقين لقوات الأمن، كل هذا لن يمنع تقدم الغيارى من أبناء العراق، لتحرير أم الربيعين من ظلامية وظلم القادمين من كهوف عصور ما قبل المدنية والحضارة، مدججين بالحقد والكراهية. 

يستكثر البعض حدوث حالات انتقام، يقوم بها أبناء عشائر تعرضوا مع عائلاتهم لفظائع ارتكبها مؤيدو داعش، وخصوصاً إن كانوا من أبناء نفس عشيرتهم، رغم أن عدداً من شيوخ العشائر توصلوا إلى اتفاق يقضي بتسليم مقاتلي داعش الذين يتم اعتقالهم أو الاشخاص الذين يشتبه بدعمهم للتنظيم إلى الحكومة العراقية، لمواجهة الاجراءات القضائية الرسمية، وينتاب البعض قلق من احتمال وقوع هجمات انتقامية من جانب أفراد مجتمعات دينية وعرقية، من الذين عانوا معاناة مروعة من الفظائع التي ارتكبها التنظيم، وفي يقيني أن كل ما يلقاه الدواعش ومن والاهم مُبرر ومنطقي ومقبول، وأنه بالاضافة إلى ذلك لابد للحكومة العراقية من إنصاف الضحايا ومساءلة الجناة. 

الموصل ونينوى صورة مصغرة للعراق الغني بتعدده وتنوعه، ويدفع ذلك للتأكيد على أهمية ترتيبات الحكم في مرحلة ما بعد داعش، للحفاظ على هذه الفسيفساء الغنية من الثقافات والأعراق والأديان، والأخذ بعين الاعتبار مطالبات وتطلعات المكونات العراقية المختلفة، والاستجابة لها بأكثر الطرق تمثيلاً وشمولية، ومعالجة مجموعة من القضايا الناجمة عن احتلال الدواعش للموصل، ومن أبرزها معالجة وضع الأطفال الذين ولدوا من جراء الاغتصاب، وأمهاتهم العازبات، والنساء اللواتي تزوجن في ظل سيطرة داعش، حيث أن العديد منهن لا يحملن عقود زواج بسبب انهيار سيادة القانون وفرض قوانين داعش، حيث أجريت تلك الزيجات خارج المحاكم.

معركة الموصل محسومة النتائج وإن طالت، وهي الفرصة الحقيقية لفرز الغث من السمين، وتحديد من هو مع العراق وطناً لكل العراقيين بالتساوي، واستثناء من خانه وباع الأمانة، وفرز الذين تمسحوا بالمذهب لتعظيم مكاسبهم الشخصية، ليظل العراق مُعطراً بدماء الشهداء، شامخاً وأبياً وعصياً على كل من يخونه ويعاديه.