لقد أصبت بصدمة غريبة، حينما قرأت في الأسبوع الماضي، بأن نتيجة ما سماه الغرب بالربيع العربي، هو خسارة منطقة الشرق الأوسط ما يزيد عن الستمائة مليار دولار. طبعا خسرت قبل ذلك منطقة الشرق الأوسط تريليونات من الدولارات في حروب عديدة، من الحرب العراقية الإيرانية وحتى حرب الكويت. تصور عزيزي القارئ هذه الكمية الهائلة من الأموال التي اختفت، وما رافق ذلك من دمار، وقتل، وسبي، وجرح، وتهجير لاثني عشر مليون مواطن. لا وحتى الآن، هناك فئة تعتقد بان فوضى ما سمي بالربيع العربي، هي الحل لتحديات منطقة الشرق الأوسط. وطبعا، لم تنضج حتى الآن فكرة الإصلاح العقلاني التدريجي في مجتمعات الشرق الأوسط، والتي تبدأ من الإصلاح الفردي الشخصي في المجتمع، وذلك بسلوك أخلاقي حقيقي، مع الإخلاص لقيم المواطنة، وذلك بتقديس الوقت، واحترام حقوق الأخيرين، والعمل على تطوير الكفاءات الشخصية، لكي نستطيع أن نقوم بمسؤوليات واجباتنا لخدمة الوطن ورفع شأنه، بل بأن نتوقف عن الصراعات حول كسب الحقوق الفردية، والتقاعس عن إداء الواجبات الوطنية. فلن يمكننا عن نتخلص من هذه الدوامة من الصراعات، والتعصب، والطائفية، إلا حينما نبدأ بثورة إصلاحية في داخل كل فرد منا. اما ثورات القرون الوسطى البالية، التي تتحدث عنها المعارضة الشرق أوسطية، والتي دمرت المنطقة، وكلفتها الكثير من مواردها البشرية وثرائها، لم تعد اليوم تجاري التطورات والاصلاحات اللازمة للألفية التي نعيش فيها، ألفية تكنولوجية الميكروشبس التي حولت، بفضل قوة الاتصالات والمواصلات العالم لقرية عولمة صغيرة وسريعة جدا. ومن ينشغل بأضغاث أحلام ثورات القرون الوسطى البالية، لن ينتهي ألا بتوحش داعي، أو بثيوقراطية إفلاس سوداء.

ومنذ ان استقلت دول الشرق الأوسط، مع شروق منتصف القرن العشرين، وهي تعاني من ثورات انقلابية بين القومية والاشتراكية والماركسية والشيوعية والثيوقراطية، والتي انتهت جميعها لدكتاتوريات شمولية، مع شل آلية التنمية المستدامة. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل حان الوقت لتفكير إصلاحي جديد، يجمع بين آلية عمل تناغمية بين المواطن، والمؤسسات الحكومية، والقطاع الخاص، والقطاع البحثي العلمي التعليمي؟ فهل حان الوقت لتطوير هذه القطاعات الثلاث، لتعمل معا بتناغم جميل، لخلق مجتمع المواطنة الصالحة المنتجة والمبدعة؟ وهل يحتاج ذلك لإصلاح في التعليم الاجتماعي والعلمي والتكنولوجي والديني؟ فهل نحتاج ان نخلق جيل جديد متعلم ومتدرب، ومؤمن بمسؤوليات المواطنة، وملتزم بسلوكيات الاخلاق السامية، والتي تجمع بين مسؤولية المواطنة وروحانية الدين، روحانية السمو الأخلاقي، برضى الخالق جلت عظمته، لا خوفا من النار، أو طمعا في قصور الجنة، وحورها العين؟ وقد نحتاج للتساؤل: كيف ستتعامل مجتمعاتنا مع التحديات التكنولوجية القادمة حينما يستلم الذكاء الآلي الكثير من المسؤوليات المجتمعية، لتخسر المجتمعات المعاصرة 45% من وظائف اليوم؟ وهل سنبدأ لوضع خطة مستقبلية لنستفيد من التكنولوجيات القادمة في القرن الحادي والعشرين؟ وهل سنكون مستعدين لتحدياتها الجديدة؟ أم ستستمر المعارضة التقليدية بإشغال الشباب بأطروحتها البالية التي اكل الدهر عليها وشرب؟

لقد لفت نظري كتاب يعرض التحديات المستقبلية في عالمنا العولمي الجديد، وبثوراته التكنولوجية المستقبلية من الذكاء الآلي، وحتى الصناعات المرتبطة بأسرار الحياة، وفي قلب جينات المورثات، بل وفي خفايا مادة الحمض الريبي النووي الغير مؤكسج، والمعروف بمادة دي. إن. أيه. وقد كتبه أليك روس، وبعنوان، صناعات المستقبل. فلنتصفح عزيزي القارئ بعض بنود هذا الكتاب الشيق. يعتقد الكاتب بأنه في العقد الماضي، اعتمدت صناعة الترليون دولار على تكنولوجية الإنترنت، بينما ستبنى صناعة التريليون دولار المستقبلية على بيولوجية الشفرة الجينية للمورثات. وهنا قبل أن نكمل الحديث، ليسمح لي عزيزي القارئ مقدمة علمية بيولوجية بسيطة لفهم موضوع الجينوم والشفرات الجينية. يتكون الجسم البشري من أعضاء مختلفة، كالجلد، والعضلات والعظام، والقلب والرئة، والمعدة والأمعاء، والمخ والأعصاب. وتتكون كل من هذه الأعضاء، من وحدات ميكروسكوبية متناهية في الصغر تسمى بالخلايا. فيتكون جسم الإنسان من آلاف التريليونات من الخلايا، وتتميز معظم هذه الخلايا بتناسق عملها مع بعضها البعض، وبأن بها مصانع عديدة تقوم بإنتاج الطاقة اللازمة للعمليات الصناعية في الخلية، كما أن بها مصانع مختلفة تنتج أنواع مختلفة من المواد السكرية والدهنية والبروتينية والهرمونات، ومواد بيولوجية معقدة أخرى. كما أن هناك جهاز مركزي يقوم بالسيطرة على مهام كل مصنع من مصانع الخلية، ويتكون هذا الجهاز المركزي من مركز كومبيوترات بيولوجي، يعتمد على شفرات بيولوجية، مكونة من مادة تسمى "دي. إن. أيه." والتي تحتوي على شفرات بيولوجية تحدد مسئوليات مصانع الخلية. وتكون مادة دي. إن. إيه. الجينات، والتي بدورها تشكل المورثات. وقد اكتشف العلوم الحديثة تركيبة جميع جينات الجسم البشري، والذي يسمي ب "الجينوم"، وتحتوي خلية الجسم البشري على أكثر من ثلاثة بلايين زوج من "دي. إن. إيه." ويمكن أي إنسان أن يرسل دمه للمختبر لدراسة تركيبة الجينوم لديه، وبذلك من الممكن أن يتعرف المختصيين على نوعية دي. إن. إيه. عند الشخص، كما يمكنهم التعرف على أية جينات مرضيه قد تودي مستقبلا لإمكانية إصابة الشخص بأمراض مختلفة، كداء السكري، وأمراض القلب، وأمراض السرطان، وبذلك يمكنهم العمل على البدء في علاج المرض، قبل أن يبدأ في غزو جسم الإنسان. كما يمكن من خلال دراسة الجينوم أن يدرك الطبيب أفضل الطرق لعلاج الشخص نفسه، فاليوم يعالج الاطباء جميع مرضى، مرض معين، بنفس الدواء، بينما سيتمكن الأطباء مستقبلا تحديد وتخصيص نوعية العلاج لكل فرد على حدة، حسب طبيعة جيناته، بل قد يجرب الدواء على خلايا المريض في المختبر، قبل بدء العلاج، وسيؤدي ذلك لنتائج علاجية نوعية. ومع أن فحص الجينوم مكلف اليوم، ولكن مع الوقت سيصبح فحص بسيط، بكلفة منخفضة، كإي فحص دم آخر. ومع معرفة مكونات الجينوم في الجسم البشري، يمكن الإستفادة من ذلك في تطوير تصنيع الكثير من العلاجات. حيث كما ذكرنا من قبل بأن مادة دي. إن. إيه التي يتكون منها الجينوم، والتي بها شفرات بيولوجية تحدد عمليات التصنيع في الخلايا البشرية، بحيث يمكننا اليوم أن نستفيذ من هذه الشفرات البيولوجية في توجهيه (بحقنها) الكائنات الوحيدة الخلايا، كالجراثيم، في تصنيع أي نوع من المواد الذي يصنعها الجسم البشري، كهرمون الإنسولين مثلا.

لقد ناقش أليك روس في كتابه، صناعات المستقبل، تفاصيل الصناعات التكنولوجية للقرن الحادي والعشرين، كما وضح السياقات الجيوسياسية والثقافية والبشرية المستقبلية التي ستبرز منها، وأكد بأن التكنولوجيات المتنوعة الجديدة ستخل بهدوء حياتنا، من الروبوت والجينات، وحتى العملة الإلكترونية. بل وأهم هذه التكنولوجيات التي ستغير حياة معظم البشر في المستقبل تتعلق بتسويق الجينوم، حيث سيعيش أطفالنا عمر أطول، قد يصل إلى 146 سنة، وصحة أفضل. فمع تطور الرعاية الصحية اليوم، ولكنها محدودة في طرق علاجها على المجموع، وليس على التخصيص على الفرد الواحد، ولكن في المستقبل سيحدد علاج كل شخص حسب الشفرات الجينية الخاصة به، بعد أن يصبح الفحص الجيني رخيص جدا، ونعرف أكثر وأكثر ما الذي نبحث عنه، لنكتشف الأمراض قبل أن تبدأ في جسم الإنسان. وينتقل الكاتب من الحديث عن الشفرات البيولوجية للحديث عن الشفرات الإلكترونية، والكميات الهائلة من المعطيات التي تجمعها الدول، من خلال حكوماتها الإلكترونية، ومن خلال التجسس على شبكات التواصل الإجتماعي الإلكترونية. كما أن هناك خطر من الكمية الهائلة من المعطيات التي تجمعها الكومبيوترات الهائلة القوة، فهناك إحتمالات كبيرة في قيد التطور أكثر مما نتصورها. بل هناك تطبيقات إلكترونية يمكن من خلالها، مثلا، متابعة سلوك الطلبة، كتطبيقات " Good2Go"، بسبب إرتفاع نسب السلوك الشاذ في الجامعات، وتزايد العنف الجنسي، حيث توثق النشاطات الجنسية الشاذة، ويمكن أن يضاف لها قراءة نسبة الكحول في الدم، وتصرف الشباب في الحانات، وبذلك يتابع سلوك الطلبة، ومن خلال ذلك تحدد، وتقنن، وتجمع القوانين وتنسقها، للتعامل مع النشاطات السلوكية الشاذة في الجامعات. كما يمكن أن تكون تلك المعطيات مفيدة في إتفاقيات الخدمة، بل ويمكن بيعها، بل الأسوء يمكن أن تسرق هذه المعلومات بالتلاعب بالشفرات الإلكترونية، فتكون العاقبة وخيمة.

كما سيكون للمعطيات الإلكترونية دورا كبيرا في العمل الدبلوماسي، وخاصة في السياسات الشوؤن الخارجية والأمنية. فقد إنتقلنا من من مرحلة الحرب الباردة، إلى مرحلة حرب الشفرات الإلكترونية، فعسكرة الشفرات الإلكترونية هي أكبر تطور في العلوم العسكرية منذ إختراع القنبلة الذرية. فليس هناك اليوم قائد سياسي لا يعتبر من أولويات عمله الشفرات الألكترونية الإمنية، كأهم جدول عمل في الأمن الوطني. ولكن يبدو بأن هناك خلافات دولية حول هذا الموضوع، والتطور بطيء في هذا المجال، والكل مغضوب عليهم من تصرفاتهم في عالم الشفرات الإلكترونية، ولأسباب مختلفة، "فالولايات المتحدة لتجسسها على الأخرين، والصين لسرقتها الأي بي، وروسيا لإستخدامها للدخول لحسابات بنوك الآخرين". ولكن مع ذلك بدأ يزداد الإهتمام بقوانين حماية حقوق الملكية الفكرية، بعد أن بدأ الإقتصاد الصيني ينضج، من إقتصاد نامي إلى إقتصاد متقدم، مع إستثمارت صينية هائلة في أبحاث الشفرات الجينية، لتتغير اولوياتها، كما نتوقع بأن تهتم الصين في العمل على حماية الحقوق الملكية الفكرية، والتي قد تفتح الطريق لنقاشات جدية في هذا المجال. وينهي الكاتب حواره بالقول: "فتكنولوجيات المستقبل ستحول عالمنا لعالم أفضل، بحيث نربط التطورات التكنولوجية بقيمنا، وأنظمة سياساتنا المجتمعية والدولية. وطبعا هذه المسئولية لا تقع فقط عبئا على الحكومة والصناعة، فقد إحتاج من قبل تنظيم الإنترنت للدولة والحكومة والصناعة والتجارة والأكاديمية، وسنحتاج ذلك أيضا للجنوميكس، والمعطيات الهائلة، والتكنولوجيات الأخرى المستقبلية. كما سيحتاج كل ذلك لتربية أطفالنا وتجهيزهم لوظائف المستقبل، وذلك بتهيئتهم عقليا للعولمة، وللثقافات المتنوعة، وبأن يكونوا على خبرة في طريقة البحث عن المعلومة لحل المعضلات المعقدة، لإيجاد الحلول المنطقية لعلاجها، وبأن تكون لديهم القدرة والإمكانيات التكنولوجية لتحقيق ذلك، كما عليهم أن يتعلمون تنظيم المعلومات وتنسيقها وتبويبها، فهذه القدرات تطور طريقة تفكيرهم، لتفيذهم كثيرا في إختصاصات وظائفهم المستقبلية." ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابا