يؤشر رحيل المفكر السوري الكبير صادق جلال العظم الى عمق المفارقة التاريخية التي تمر فيها بلاده سوريا، وهي تخوض معركة بقاء الدولة أو موتها وسط كثافة غيوم الظلام وزوابع التوحش وطوفان الموت الجنوني، الدولة المنارة التي كانت تزدهر بأطروحات الفكر التنويري لصادق جلال العظم وجورج طرابيشي ونصوص أدونيس وروايات حنا مينا وقصص نجاح العطار وأغاني العشق لنزار قباني وعاصفة قصيدة النثر لمحمد الماغوط وطاقتها بتصوير سريالية الواقع العربي ..!

 ضوء آخر يطفأ ليس في سوريا ومخاضاتها مع آلهة الموت والظلام، إنما في عالمنا العربي الضاج بصراخ الإنتقام والبطش الطائفي واستعارة ثقافة القرون الوسطى ومنهج الإبادة وشهية غير منقطعة للذبح والدماء والخراب ...!؟

 

في وقت مبكر من اهتمامي بالقراءة صدمت بالمفكر الراحل صادق جلال العظم عندما وقع بيدي كتابه ذائع الصيت ( نقد الفكر الديني)، فعلا كانت صدمة أسست لي منهجا في التنوع والإنفتاح الثقافي ومعنى النقد وأهميته في الحياة، وأنا في الرابعة عشرة من عمري، فكان المثابة التي انطلقت منها لرفع العديد من الغشاوات التي أورثناها عن الدين ورسختها أعراف إجتماعية مغلوطة، أو ثقافة طبقة رجال الدين الساعية الى بسط رهاب الدين كوسيلة عبودية وليس تحرر واشتنشاق الحرية في التفكير وبناء الإنسان، من هنا أجد المفكر العظم أحد بناة الوعي التقدمي في البلاد العربية، وقد ساهم بتحرير عقول الاجيال في جهده الفكري القائم على اكتشاف وتحليل الواقع بجرأة عالية في كسر التقاليد والثوابت المتخلفة في الذهنية العربية، والتعامل مع الواقع بحيثياته وتفاصيله المريضة وليس بإيهاب القدسية الزائفة .

 

 المفارقة الأخرى حين نرثي رحيل المفكر صادق العظم، كأننا نرثي لزمن ثقافي تنويري وقد رحل معه ليس في سوريا وحسب، بل في العديد من بلادنا العربية التي دخلت عصر الظلام والكراهية، ففي الوقت الذي كانت فيه الأوساط العربية تحتفي باصدارات الرواية والمسرح والفكر والشعر والنقد وطروحات علم النفس والإجتماع والفلسفة والفنون التشكيلية، تنشغل الآن بفتاوى رجال الدين وكتب الشعوذة والخرافة والتجهيل الإسلامي، ودعوات التحريم والإقصاء والتفويض الطائفي لكل شذوذ الأفعال والتحريض على نزعة التوحش والعداء للمواطنية والسلام والإختلاف المذهبي، وإذ كانت تسطح نجوم الإبداع وصناع الجمال والفن فتنير عواصم العرب مثل القاهرة وبغداد وبيروت ودمشق والجزائر وصنعاء، تنشغل منذ ربيعها الأسود بانتاج قادة الإسلام السياسي وطوائفه المتناحرة وزعماء الميليشيات وقادة الإرهاب والمتفوقين بالذبح أمام عدسات التصوير ..!؟

نحن نسير في إتجاه مغاير للإنسانية ومجتمعات الأرض، وماتضج به من رؤى واكتشافات وتطور مدهش في تسخير طاقات العلم والإبتكار، وإحالة الإنسان الى أنموذج حيّ للسوبرمان وليس تخيلا سينميا ً، يرتد عالمنا العربي تعاليم الغابة في مراكب الجهل الضوئية، وليس لنا من هذا العصر سوى الإقامة الطارئة ووظائف التلوث لما هو نقي ونظيف وطفولي،هكذا تقترح ثقافة والإسلام السياسي ومنتجاتها التدميرية لما شيّد في مائة عام من التحضر والمدنية..!

عالم عربي يتسع للقتلة وينتج مجرمين وعصابات لشعوب تتنفس الخوف وهي لاتسمح سوى صخب النداء الموت المرعب " جئناكم بالذبح "..!

 ذلك هو الرثاء العظيم ان يصبح عالمنا العربي طاردا للإبداع والجمال والسلام، يضيق بوجود صادق جلال العظم وبقايا صناع الجمال وثراء العقل ومنتجعات الفكر وفضاءات السمو ..!