الدكتور عبد العزيز المزيني

يعتبر موضوع حماية التراث الثقافي أثناء الصراعات اليوم موضوعاً أمنياً وإنسانياً بامتياز. وثمة وعي دولي متصاعد بشأن العلاقة بين حماية التراث الثقافي والشأن الأمني والإنساني. وتلعب اليونسكو في هذا الجانب دوراً محورياً.

أنشئت اليونسكو بعيد الحرب العالمية الثانية بتفويض أممي لبناء خطوط دفاع للسلام في عقول الرجال والنساء، عن طريق ما يعرف اليوم بالقوة الناعمة للأمم المتحدة. ومعروف عن اليونسكو كونها قائد عالمي في حماية الإرث الثقافي،

الدكتور عبد العزيز المزيني

وهي ذات سجل حافل من المواقف والتدخلات الهادفة لحماية وإعادة تأهيل المواقع الأثرية والثقافية في مناطق النزاعات. وتقود اليونسكو الجهد الدولي والحملات في مناطق عدة من بينها مالي وليبيا وسوريا والعراق واليمن وأفغانستان وقبل ذلك كمبوديا والبوسنة والهرسك.

أزمة إنسانية مدمرة
لم يكن التفويض الأممي لليونسكو أكثر أهمية مما هو عليه اليوم، لا سيما في ظل الاضطرابات والتوترات، خصوصاً في الشرق الأوسط. ويبدو من الضروري أن ننظر بشكل مباشر إلى الواقع، فهذه أوقات عصيبة لم تحدث من قبل في هذه المنطقة المتعددة ثقافياً وإثنياً. والذي نراه اليوم أزمة إنسانية مدمرة تنتهك فيها حقوق الإنسان بدرجة غير مسبوقة؛ هجوم على الأقليات ونساء تسبى، صحفيون يقتلون وإرث ثقافي وأثري متعدد يدمر. أما أعداد اللاجئين في الخارج والمهجرين النازحين في الداخل في تزايد. وبحسب آخر الاحصائيات هناك 15 مليون لاجئ عراقي وسوري، كما أن الأرقام تشير إلى 2.76 مليون مهجر داخل اليمن فقط.

الثقافة كهدف عسكري

إن اليونسكو قلقة جداً من الآثار المدمرة للصراعات على التعددية الثقافية والتراث في المنطقة، خصوصاً عندما تتحول المواقع الأثرية والثقافية إلى أهداف عسكرية. فقد استخدمت المجموعات المسلحة مثل داعش الهجوم المتعدد والمتكرر على التعددية الثقافية ورموزها فيما يسمى (بالتطهير الثقافي) كجزء من إستراتيجية للسيطرة على السكان. وقد كانت الهجمات على الثقافة والتراث تعتبر عنصراً هاماً في الآلة الدعائية وأيضاً سلاح حرب.

إن التدمير المتعمد للتراث الثقافي من قبل المجموعات المسلحة المتطرفة وفق أرضية أيديولوجية، والاضطهاد والذي يطال الأقليات لأسباب تتعلق بثقافتها أو دينها، يمثل انتهاكاً لحقوق الإنسان ويمثل عنصراً يفاقم الصراعات ويشعل العنف الطائفي ويقلل فرص التوافق. ونستذكر في هذا الصدد ما تقوله اتفاقية روما للمحكمة الجنائية الدولية: الهجوم المتعمد الموجه ضد مواقع تراثية قد يرقى إلى جريمة حرب.

احترام الاتفاقيات

لقد شاهدنا أيضاً الآثار المدمرة للأضرار المزدوجة جراء الهجوم على الإرث الثقافي، بما في ذلك الأماكن ذات الثقافة السكانية كما حدث في سوريا واليمن. وطلبت اليونسكو وتطلب من كل الأطراف الضالعة في النزاعات المسلحة أن تحترم اتفاقية لاهاي (١٩٥٤) لحماية الملكيات الثقافية أثناء الصراعات المسلحة، واتفاقية التراث العالمي (١٩٧٢) التي تطالب جميع الأطراف بالامتناع عن استخدام المواقع عسكرياً وعن استهداف المواقع الأثرية والتراثية.

إن من الآثار السلبية الإضافية للصراعات المسلحة على التراث الثقافي تصاعد عمليات النهب والمتاجرة غير المشروعة بالمقتنيات الأثرية والتراثية. وتستخدم اليونسكو خلال الصراعات القدرات التوفيقية عن طريق تنبيه السلطات العسكرية والمدنية بما في ذلك الجمارك وقوات الأمن إضافة إلى العاملين في سوق المقتنيات الفنية، وتدعو اليونسكو إلى الحيطة والحذر فيما يتعلق بإمكانية تصدير المقتنيات التراثية المنهوبة.

قرارات أممية

للأم المتحدة أياد بيضاء على حماية الثرات. لنتذكر قرار مجلس الأمن رقم 2199 الصادر في فبراير 2015 والذي يمنع المتاجرة بالمقتنيات الثقافية والأثرية في العراق وسوريا، وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة حول حماية التراث الثقافي في العراق، الصادر في مايو 2015 إضافة إلى إعلان القاهرة 2015. كذلك، طالب قرار مجلس الأمن 2253 بتاريخ 17 ديسمبر 2015 بعلاقات متينة بين الحكومات والقطاع الخاص لتجفيف مصادر تمويل الإرهاب، حيث يعتبر بيع المقتنيات التراثية واحداً من المصادر. وقامت اليونسكو، كجزء من رغبتها بحشد التأييد الدولي، بإطلاق مبادرة التحالف الدولي (متحدون مع التراث) التي تهدف إلى حماية التراث الثقافي أثناء الصراعات المسلحة. لقد تم ذلك في مدينة بون الألمانية في يوليو 2015، أثناء انعقاد الجلسة التاسعة والثلاثين للجنة التراث العالمي. ورافق المبادرة حملة دولية عن طريق شبكات التواصل لبناء دعم من قبل الرأي العام لحماية المواقع الأثرية والتراثية في مناطق النزاع.

لقد أقرت اليونسكو في نوفمبر 2015 "استراتيجية لتقوية دور اليونسكو في حماية التراث الثقافي وتشجيع التعددية الثقافية أثناء الصراعات". وتشجع الاستراتيجية التعاون مع شركاء في الأمن وبناء السلم والعمل الإنساني، وهذا يجعلنا نعمل عن قرب مع منظمات الأمم المتحدة ونشطاء في العمل الإنساني وحفظ السلام وذلك لإلحاق البعد الثقافي بسياساتهم وبعملياتهم الميدانية. ونسعى أيضاً لإقرار (آلية استجابة سريعة) لحماية الإرث الثقافي في حالات الطوارئ، يشارك فيها العسكري والمدني، ويمكن استخدامها في إطار مهمات قوات حفظ السلام بمساهمة فنية من قبل اليونسكو.

إشارات مشجعة

إن الوضع في الشرق الأوسط يتطور بسرعة، وثمة إشارات مشجعة للوصول إلى حلول للصراعات المسلحة، وهذا يقود إلى الحاجة للتفكير بوضع استراتيجيات لما بعد الحرب بإعادة البناء والتنمية. ففي شهر يونيو المقبل، ستعقد اليونسكو ندوة دولية في بروكسل لمناقشة التحديات والفرص في مجال حماية التراث الثقافي في الأوضاع الراهنة وكيفية الحفاظ عليها مستقبلاً. وستركز الندوة من ناحية على كيفية إعادة تأهيل الثقافة والتراث في الدول التي دمرتها الحروب، ومن ناحية ثانية ستحاول التركيز على إمكانية استخدام الثقافة لبناء المجتمعات والمساهمة في الحوار والتوافق من أجل مجتمعات ذات ديمومة.

إن حماية الثقافة والتراث في الشرق الأوسط لا بد من أن تكون مسؤولية الجميع، لأنه ملك للإنسانية قاطبة. ولا بد من تعاون وثيق بين الدول والشركاء في الأمم المتحدة والمنظمات الحكومية والكيانات المهنية والجيش والجمارك والمتاحف والخبراء. ويجب أن نعمل على أن تحترم الالتزامات الدولية في ما يتعلق بمعاقبة الضالعين في تدمير الإرث الثقافي. ونحتاج إلى التأكيد على الرؤية الإيجابية للتعددية الثقافية ونشجع التفاهم المتبادل لمقاومة الهجوم على الثقافة والتراث.

من ورقة قدمها الدكتور عبد العزيز المزيني في مؤتمر «العمل الانساني: آفاقه وتحدياته»​