الرباط: نزل أخيرًا إلى أكشاك بيع الصحف كتاب صغير الحجم للفنان المغربي فتح الله المغاري، متضمنا باقة مختارة من كلماته وأغنياته التي ذاعت وشاعت في فترة ازدهار الأغنية المغربية، مثل "كاس البلار"، و"الله ماأنت معانا" و" رجال الله"، وغيرها.

ويمثل لمغاري حالة فنية تثبت فرادته، فهو يشكل وحده في المشهد الغنائي نموذجا لفنان يكتب ويلحن ويغني في نفس الوقت، وأحيانا، وبغرض التنويع الفني يسلم كلماته إلى ملحنين آخرين سرعان ما تنتشر على الألسنة، بعد غنائها من طرف بعض المطربين والمطربات، أمثال عبد الوهاب الدكالي وعبد الهادي بلخياط، ولطيفة رأفت ونعيمة سميح.

 

غلاف أسطوانة " والله ماأنت معانا" لفتح الله المغاري

 

مجد الأغنية المغربية

والمغاري المولود في فاس سنة 1940، جاء إلى الرباط، بعد اشتداد عوده، وبروز ملامح نبوغه، في فترة شبابه، مشبع الذاكرة بمخزون هائل من تراث الطرب الأندلسي وقصائد الملحون، التي تتردد أصداؤها بين أسوار العاصمة العلمية للمملكة المغربية في الأفراح والمناسبات، ويتضح ذلك جليا في انتاجاته الزجلية التي يستعمل في بعضها أحيانا البعد الرمزي والتعبير الصوفي. 

ولعله من غريب الصدف أن غالبية الأصوات المغربية التي صنعت مجد الأغنية المغربية تنتمي لفاس، مثل محمد فويتح، ومحمد المزكلدي، والمعطي بنقاسم، وعبد الرحيم السقاط، وعبد الوهاب أكومي، وعبد الوهاب الدكالي، وعبد الحي الصقلي، ومحمد بوزوبع، وعبد الهادي بلخياط، ونعمان لحلو.

 

من الأرشيف: عبد الحليم حافظ يطعم فتح الله المغاري تحت أنظار عبد الهادي بلخياط

 

ولمغاري ليس صاحب إحساس رقيق في الأداء مثل عبد الوهاب الدكالي، وليس صاحب حنجرة بمساحات صوتية عالية، مثل المطرب المغربي المعتزل عبد الهادي بلخياط، ولكنه رغم ذلك، استطاع بإصراره أن ينتزع لنفسه وفنه وإسمه مكانة وسط رموز الأغنية المغربية ونجومها اللامعة.

و كانت أغنيته " كأس البلار" التي أطلقها في الستينيات من القرن الماضي، من كلماته وألحانه بمثابة إعلان حقيقي عن ميلاده كفنان يسعى لأن يثبت حضوره إلى جانب الكبار. 

زمن الروائع الغنائية

في فترة من الفترات ظل المغاري، وأحمد الطيب العلج، وعلي الحداني، والطاهر سباطة، ووحيد لعمارتي، هم الزجالون الذين تتردد كلماتهم على ألسنة أهل الطرب، قبل أن يلتحق بهم حسن المفتي، عائدا إلى المغرب من القاهرة، التي كان يعمل مساعد مخرج سينمائي في استوديوهاتها.

ولايمكن بأي حال من الأحوال نسيان المساهمة المتميزة للشاعر عبد الرفيع الجواهري في إثراء الأغنية المغربية، بقصائد تحولت إلى أغنيات حلقت بالوجدان الجماعي للمستمعين في عوالم الإبداع، مثل " ميعاد" والقمر الأحمر" و"راحلة" وغيرها.

وكل هؤلاء الزجالون والشعراء الغنائيون لديهم كتب ودواوين شعرية وزجلية تضم بين صفحاتها قصائد مختارة من كلماتهم، ولم يلتحق بهم فتح الله المغاري إلا في الأيام الأخيرة من خلال هذا الكتيب، الذي أثار صدوره مجموعة من الملاحظات لدى متتبعي نشاطه الفني، كواحد من صناع الأغنية المغربية في شكلها العصري والحديث.

أخطاء مطبعية بالجملة

الكثيرون لم يتقبلوا، مثلا، منه أن يصف نفسه في أعلى الغلاف ب"الفنان المبدع فتح الله المغاري"، وأن يعتبر أن ما يكتبه روائع، بدليل هذا العنوان " روائع الفنان فتح الله المغاري"، في الوقت الذي يتعين عليه أن يترك ذلك لحكم الجمهور. 

وبقدر حرصه على وضع اسمه ككاتب كلمات وملحن ومغن أسفل كل القطع الغنائية المنشورة، بقدر تغافله أو نسيانه أو إهماله لذكر أصوات تغنت بأزجاله، أو لعلها سقطت سهوا في المطبعة، ماعدا قلة قليلة من الأسماء، مثل لطيفة رأفت، وكذا المطرب الكبير عبد الهادي بلخياط، الذي وضع صوره معه إلى جانب كلمات أغنيتي "الصنارة"، و"جرح قديم".

وتعتبر القطعة الأخيرة من أجمل الأغاني المغربية، ويحكى أن العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ كان من المعجبين بها، خاصة بالنسبة لمطلعها المستلهم من التراث الأمازيغي في جبال الأطلس المتوسط.

غير أن الكتيب الصادر حديثا أساء إلى أغنية "جرح قديم" على مستوى الكلمات، فقد حذف المطلع الذي يقول: " النار شعلت وزاد لهيبها..شغلت بالي بنار تعذيبها، فينك ياطافي النار؟ فينك؟".

والأكثر فظاعة أن بقية الكلمات تعرضت للتشويه بفعل الأخطاء المطبعية المرتبكة، وهي بالجملة، مثلا :" مالقيت طبيب مخصص في دواه"، غدت " مالقيت طبيب مخمقو فداه"، و"الجرح صعيب إلا طال"، تحولت إلى " الجرح صعيب الرطال"، والأمثلة كثيرة جدا، ويصعب حصرها كلها، وهي اختلالات سيئة جدا، وتربك المعنى، مثلما حصل لعنوان أغنية " اللي بنيتو راه الريح أداه"، الذي أصبح " اللي بنيتو الرعد أداه"، وكأن هذا الكتيب، رغم صغره، لم يخضع للمراجعة والتصحيح أبدا.

أغنيات غائبة

وثمة كلمات أغنيات للمغاري كان لها وقع طيب في أسماع الجمهور المغربي، في السبعينيات من القرن الماضي، لكنها لم تجد طريقها إلى النشر في الكتيب، ومن بينها أغنية "الدار اللي هناك" لعبد الوهاب الدكالي، وهي مأخوذة عن نص أصلي مصري لحسين السيد، وأغنية "الظروف" لعبد الهادي بلخياط، الذي سجلها في مرحلة من تاريخ المغرب،اصطلح على تسميتها ب "سنوات الرصاص"، وشكلت آنذاك نمطا غنائيا خارجا عن المألوف.

ورغم طابعها الوجداني والعاطفي، فقد كانت دار الإذاعة والتلفزيون المغربية تتجنب تقديم أغنية "الظروف"، الممنوعة آنذاك، بسبب مضمونها، الذي أسيء فهمه، ما جعل لمغاري يتقدم شخصيا إلى الملك الراحل الحسن الثاني، في إحدى المناسبات الوطنية، بملتمس من أجل رفع المنع عنها. 

وغابت أيضا عن صفحات الكتاب كلمات قطعة "صوت الحسن ينادي" التي صاغها المغاري، وأبدع في تلحينها الفنان عبد الله عصامي، مع انطلاق المسيرة الخضراء نحو الصحراء المغربية سنة 1975، وشارك في أدائها بشكل جماعي أغلب المطربين المغاربة، ومازالت حية حتى الآن كأنشودة وطنية يتغنى بها الجميع.

سؤال برسم المستقبل

وسط هامات مشاهير الفنانين كبرت قامة المغاري، وخلق لنفسه شخصية فنية متميزة، بين أقوى الأصوات، مستفيدا ممن سبقوه إلى المجال الموسيقي، أولئك الذين ساعدوه ودفعوا به، من خلال تبنيه فنيا، إلى دائرة الضوء والانتشار،مثل عبد الرحيم السقاط وعبد القادر الراشدي والعربي الكواكبي، إيمانا منهم بموهبته.

وقد حفل الكتيب بمجموعة من الصور التي تجمعه مع بعض الشخصيات السياسية، مثل الملك الراحل الحسن الثاني، والملك محمد السادس، وعبد الإله ابن كيران ، رئيس الحكومة المغربية سابقا، ونجوم الغناء العربي والمغربي مثل عبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم، والبشير عبده، وعبد القادر الراشدي، ومحمود الإدريسي. 

والكتيب جاء خاليا من أي تقديم لباحث أو مهتم يضع تجربة المغاري تحت المجهر، انطلاقا من زاوية النقد والتقييم، ماعدا كلمة صغيرة، في الصفحة الثانية، بمثابة تعريف به، لكنها غير كافية.

إن المرء يحتار في تصنيف كتيب المغاري الصادر في أقل من ثلاثين صفحة، فلا هو ديوان لأزجاله، ولا هو توثيق لمجمل أعماله، ولا هو سيرة ذاتية لحياته الفنية، ويبدو كأنه أنجز على عجل، فجاء إخراجه دون المستوى المطلوب، ولا يليق بتاريخ كاتب كلمات وملحن ومطرب في قامة وحجم المغاري، الذي يحسب عادة ضمن الرواد الكبار، الذين تفننوا في إبداع شفافية الكلمة، وبناء الجملة الموسيقية، وجمالية الأداء الغنائي.

فهل يتم تدارك الأمر بطبعة جديدة، منقحة ومصححة، وخالية من كل تلك العيوب التي شابت هذه النسخة التي توجد حاليا بين أيدي القراء؟

سؤال مطروح برسم المسقبل، لعل وعسى أن تكون هناك مبادرة أخرى تتطرق لواقع الغناء في المغرب بنظرة شمولية، تنصف رواد الزمن الجميل،أمثال المغاري وغيره، وتتصدى لهذه الموجة العبثية السائدة حاليا، والتي تنتهج أسلوب الصخب والكلام السطحي، وتعتمد إيقاع الرقص على السيقان، بدل التوجه لرهافة الوجدان، وكأنما هناك خطة ممنهجة لإفساد ذوق جيل بأكمله.