"إيلاف" من سيدني: تمنت المهاجرة الألبانية أرمونيلا جاهو بأن تُصبِح مغنية في الثامنة من عمرها. وحققت حلمها مع مرور الأيام لتصبح- وفقاً لمجلة "ذا إيكونوميست"- السوبرانو الأكثر شهرة في العالم.
وفي سن الـ 18 عاماً من عمرها، خطر ببالها أن تدندن "لا ترافياتا" باللغة الألبانية. واليوم تتذكرها قائلة: "عندما غنيتها بالإيطالية، لاحظت الإختلاف الشاسع بين المحاولتين". ومذاك الحين قدمت مغنية السوبرانو- التي يصفها البعض بـ"ماريا كالاس" القرن الواحد والعشرين- 250 عرضاً لأوبرا فيردي.


تعود الفنانة الألبانية اليوم، بعد أن قدمت سابقاً أوبرا "لا ترافياتا" على المسرح الملكي في إسبانيا، وأبكت العديد من الذين حضروا العرض آنذاك. وذلك لأجل تقديم أوبرا جاكومو بوتشيني "مدام بترفلاي" على ذات المسرح.
ومن خلال هذين العملين، إستطاعت جاهو (1974، تيرانا)، أن تغزو قلوب الجمهور في مدريد الذي يعتبرها قريبة جداً منه، لا بل تنتمي إليه. وقد أدرك هذا الجمهور أن أسلحتها لا تكمن في التكنيك، بل في شيء أبعد من ذلك. أي في الحياة. لأنه، من أجل تجسيد هذا الكم الهائل من العواطف، يتطلب الأمر معاناة ومثابرة. وكذلك الإلتزام، من ناحية أخرى. بالإضافة إلى شيء من الجنون المشوب بالغموض. علماً أنها حين تستعيد ذكرياتها تعترف بأنها لم تكن تحلم بأن تكون مغنية فقط، بل كانت تهذي بسبب ذلك، قائلة: "لقد كنت نوعاً ما أعاني من مرض أو هو بالغناء".

ولا يكمن شغفها بالغناء فقط في هذا الإستسلام الكامل إلى الرغبة والطموح، بل أيضاً بسبب المعاناة والمحطات السوداء التي شهدتها خلال حياتها. فهذه النجمة عانت الكثير من البؤس وسحق الكرامة، وأُرغمت على الهجرة. عملت في رعاية الأطفال وكبار السن في إيطاليا التي إستقبلت الموجات الأولى من المهاجرين الألبانيين، وذلك في أوائل أعوام التسعينات، حينما وصلوا هناك على متن قوارب محملة بأمل البقاء على قيد الحياة. وهناك في إيطاليا، وبدعوة من السوبرانو كاتيا ريجارلي بدأت تتلقى بعض الدروس في الغناء في مدينة مانتوا. وإستطاعت، شيئاً فشيئاً، أن تتأهل ما بين ساعات العمل والدراسة.



وعن تجربتها تقول: لقد وصلت وعمري 18 عاماً، لم أكن أملك سنتاً واحداً. إشتغلت في جميع المجالات. وفي الواقع، في بعض الأيام لم يكن لدي ما يسكت جوعي. عانيت الذل الذي لا يمكن أن يتخيله المرء. وعشت لحظات بائسة، شعرت من خلالها أن لا معنى لي في هذا العالم. غير أنني، لم أقل ذلك بصوتٍ عالٍ أبداً، لأنه بمجرد الرضوخ له كان يعني الإستسلام. لذلك، في كل ليلة وقبل أن أنام، كنت أرغب في تحقيق حلمي، الأمر الذي حفّزني لأن أتشبث بالحياة".

في كل مرة ترتقي "جاهو" خشبة المسرح، يلاحظ الجمهور بوضوحٍ أكبر هذا الشغف العميق للمغنية التي لم يكن طريقها إلى الفن سهلاً. وهي تقول: "أطلّ كل ليلة على المسرح كما لو كانت المرة الأخيرة التي أغنّي فيها. وسيحدث ذلك يوماً ما، سأفقد صوتي، أنا أتوقع ذلك. ربما أبالغ قليلاً، لكنني سأصمد حتى النهاية. أنني أقوم برحلة مرهقة يبدو لي أحياناً، كأنني لا أسمع تصفيق الجمهور. هذا الشغف، هو أيضاً بمثابة إحترام له. أنني أمنحه كل شيء".

وتشرح أنها أحبت الغناء منذ كان عمرها ست سنوات، وتقول: "والدي، الذي كان رجلاً عسكرياً، ووالدتي المعلمة، كانا يعرفان ذلك. لكنهما كانا يعتقدان بأنني سأعود إلى ألبانيا. توفيا، وغيابهما يؤلمني جداً. لقد عدت، ويجب عليّ أن أعطي للمغنين الشباب ما تعلمته وما إكتسبته من خبرة. لكن ما يقلقني أنهم لا يشعرون بالنار التي دفعتني لأن أخوض كل التجارب. أراهم اليوم أكثر قناعة. البلد في حال أفضل، وهذا في بعض الأحيان، لا يعين على تكريس أنفسنا كليّاً لما نحب".

وتؤكد "جاهو" على أن "كل الآلام والمعاناة، يمكن أن تكون لها أهميتها وقيمتها". وتوضح: "لو لم أكن خضت هذه التجارب، لما غنيت هكذا. في أعماقي، ولكوني إيجابية، أنا أقدر ذلك حقاً. مدرستي كانت حياتي. ينبغي على المغني أن يكون مثل الكتاب المفتوح، ويصبّ كل خبرته في الغناء. وهكذا تنطلق الروح بكل حرية. والجمهور ينتبه لذلك، وعليه لا يمكن للمغنّي خداعه".