من قتل شكري بلعيد ومحمد البراهمي؟ ذلك هو السّؤال الكبير والخطير الذي تطرحه أعداد هائلة من التونسيين منذ يوم الواقعتين المؤلمتين، واقعة يوم السّادس من شباط (فبراير) 2013، وواقعة 25 تموز (يوليو) من العام ذاته. والسؤال مشروع لأن المسؤولين في الحكومة الموقتة التي سيطرت عليها حركة النهضة، وتصرفت فيها كما لو انها الوحيدة المطلقة اليد في شؤونها الداخليّة والخارجيّة، لم تقدم ما يمكن أن يزيل الغموض الذي لا يزال مخيّما بظلاله القاتمة على الحقائق المتعلّقة بهما. بل هي اكتفت في كلّ مرة بذرّ الرّماد في العيون، وتهدئة خواطر مئات الآلاف من الغاضبين بالأكاذيب المفضوحة. وهكذا سكتت الحكومة «الترويكا» عن الكلام المباح، وبدت وكأنها تحاول بشتى الطرق والوسائل غلق ملفّ القضيّة، والبحث عما يمكن أن يجعل التونسيين ينشغلون بقضايا أخرى غير جريمة اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي! & وأمّا محمد المنصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر فقد تصرّفا وكأنهما غير معنيين بالأمر هما اللذان كانا بالأمس القريب يقيمان الدّنيا ويقعدانها عندما يقوم نظام زين العابدين بن علي بأدنى فعلة ضدّ «حقوق الإنسان!». وقد وعد الباجي قايد السبسي اثناء حملته الانتخابية بالكشف عن مرتكبي الجريميتين المذكورتين. ولكن يبدو أنه اصطدم بجدار سميك &جعله يتلكأ في مصارحة التونسيين بحقيقة ما حدث. والحقيقة أن عمليّات الاغتيال السياسيّة غالبا ما تكون شديدة التّعقيد، وعسيرة على المحققّين السّاعين إلى فكّ ألغازها، واستجلاء أسرارها ودوافعها وأهدافها. وهذا ما يتبيّن لنا بوضوح وجلاء من خلال اغتيال الرئيس الاميركي جون كينيدي، والزعيم الكونغولي باتريس لومومبا، والزعيم الإشتراكي المغربي المهدي بن بركة، والرئيس الجزائري محمد بوضياف. غير أن كلّ هذا ليس حجّة لكي يكفّ التّونسيّون عن طرح السّؤال، وبكثير من الإلحاح: من قتل شكري بلعيد؟ ومن قتل محمد البراهمي؟ وأوّل ما يتوجّب التّوقّف عنده هو أن عمليّتي الاغتيال تمّت في ما أصبح يسمّى بـ«مرحلة الإنتقال الديمقراطي» التي من المفروض أن تكون خالية من العنف حتى ولو كان في أدنى مستوياته، ولا هدف من ورائها غير تعليم الشعب كما الاحزاب والمنظّمات، مبادئ الديمقراطيّة وفنّ الحوار والجدل واحترام الرأي المخالف.& & لكن، وللأسف الشديد، خلت «مرحلة الإنتقال الديمقراطي» في تونس من الكثير من المبادئ التي كان من المفروض أن تكون محكّمة فيها، لتتحوّل إلى حلبة للصّراعات العنيفة وللمجادلات العقيمة، والتجاذبات التي تهيمن عليها صيحات التهديد والوعيد. واعتمادًا على حقائق الواقع، يمكن القول ان حركة النهضة مسؤولة إلى حدّ كبير عن استفحال العنف في تونس، وعن تعفّن عمليّة الإنتقال الدّيمقراطي. فعشيّة آنتخابات 23 أكتوبر (تشرين الاول) 2011، هددّ راشد الغنوشي، بدفع أنصاره إلى الشوارع للتّعبير عن غضبهم إذا لم تفز الحركة التي يتزعّمها بالاغلبيّة في المجلس التأسيسي! ومعنى ذلك أنه لم يكن مستعدّا لقبول نتائج اللّعبة الديمقراطيّة إلاّ عندما تكون لصالحه ولصالح حركته! فلمّا تمّ له ذلك، شرع هو وقادة النهضة في تهديد الأحزاب المنافسة، وتقزيمها باسم «الشرعيّة». وفي أكثر من مرّة، قام أنصاره بعمليات لاستعراض القوة في قلب العاصمة للردّ على خصومهم السياسيين الذين فضحوا الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها حركتهم في تسيير شؤون البلاد على جميع المستويات. وفي تظاهرة لحركة النهضة، رفع الصحبي عتيق عقيرته معلنا استعداد حركته لـ«سحل المعارضين لها، والدوس عليهم في الشوارع». وأما نور الدين البحيري فقد نسى أنه وزير للعدل ليعلن أمام مناصرين هائجين مثله أن لحركة النهضة آلآفا من الانتحاريين (هكذا!!!) وعندما شرع السّلفيّون في ترويع المثقفين والفنّانين، وفي نشر الفوضى داخل الجامعات والمدارس، وفرض تعليماتهم ومواعظهم، وفي ارتكاب جرائم تهددّ الأمن العام، لم يعبأ الغنوشي بذلك، بل أعلن أنهم - أي السلفيون - «لا يهددون &الامن العام بل يدعون إلى ثقافة أخرى». & وفي اجتماع سرّي مع البعض من قادتهم، تمّ الكشف عنه فيديو شهير، وعد زعيم النهضة السّلفييّن بتطبيق ما يدعون إليه بعد السّيطرة المطلقة على أجهزة الدولةّ. وفي المساجد، ارتفعت أصوات أئمة تونسييّن في صفاقس وجرجيس وتونس العاصمة والقيروان وسوسة، تدعو إلى هدر دم مناضلين سياسييّن معروفين بعدائهم للنهضة. وكان الشهيد شكري بلعيد واحدا من هؤلاء. & وازدادت الأوضاع الامنية &في البلاد خطورة بعد أن سمحت حكومة النّهضة لأنصار ما يسمّى بـ«رابطات حماية الثورة»، وجلّهم من المنحرفين ومجرمي الحقّ العام، بالاعتداء على زعماء الأحزاب السياسية المعارضة للحركة، وتخريب مقرّاتهم، وإفساد اجتماعاتهم الشعبيّة في العاصمة، وفي المدن الداخليّة. وحتى عندما قام أنصار هذه الرابطات بسَحْل رئيس مكتب نداء تونس في تطاوين، تصرّفت حكومة النهضة وكأنها تبارك تلك الجريمة البشعة. وخلال الأشهر الاخيرة من عام 2012، تلقّى شكري بلعيد العديد من التهديدات بالقتل، غير أن حكومة النهضة لم تعبأ بذلك، بل أن البعض من المسؤولين الكبار فيها الذين أغاضهم عناد شكري بلعيد وأفزعتهم مواقفه الشجاعة، وشعبيّته التي أخذت تتسع في كامل أنحاء البلاد، وكدّرتهم فصاحته، ومعرفته الدقيقة بأوضاع البلاد، سمحوا لأنفسهم باتهامه بـ «تهديد الأمن العام». وهذا ما حدث بعد أحداث سليانة الأليمة. وكان يوم الاحتفال بذكرى قيام الجمهورية في الخامس من شهر تموز (يوليو) 2013 يومًا أسود إذ تمّ اغتيال المناضل القومي محمد البراهمي امام بيته بالعاصمة. وكانت تلك الجريمة &بمثابة المعطى الجديد الذي دفع الكثير من التّونسيّين إلى تحميل حكومة النهضة المسؤوليّة الاخلاقية والسياسيّة في جريمة اغتيال شكري بلعيد، ومحمد البراهمي. وتزداد هذه المسؤولية ثقلا عندما نعاين التباطؤ المبيّت في الكشف عن خيوط الجريمتين. والواضح أن حركة النهضة ومن شاركوها كعكة السلطة بعد آنتخابات 23 اكتوبر (تشرين الاول) 2011 يرغبون في طي ملف اغتيال المناضلين بلعيد البراهمي في حين أن الكشف عن ملابسات الجريمتين لا بدّ أن يتمّ. فمن دون ذلك لن تتمكن النهضة من إقناع التونسيين بأنها باتت حركة سياسية رافضة لكل أشكال العنف والإرهاب.