احيانا توقظني من النوم اغان بديعة تنبعث من الراديو في حديقة الجارة الجميلة، فيشرق نهاري بالسعادة والحيوية!
 
اغاني صليحة المفعمة بروح تونس بصحرائها وبحرها وجبالها.. جبال "الكاف العالية" حيث ولدتْ ونشأتْ.. اغاني الهادي الجويني العابقة بالحنين الى الاندلس المفقودة.. اغاني محمد الجموسي الذي امضى الشطر الاكبر من حياته في باريس مواسيا بالحانه الرائعة المغتربين امثاله، ومستحضرا له ولهم جمال الوطن البعيد..
 
اغاني سيدي علي الرياحي الذي سقط ميتا على ركح المسرح البلدي في قرطاج في سهرة ليلة السابع والعشرين من مارس(اذار) 1970 وهو يردد: انا كالطير في وكْرو يغنّي…
 
اغاني الهادي القلال الذي عشق اميرة في قصر الباي، وعشقته هي ايضا، غير انه لم يتمكن من الزواج بها، وظل عازبا الى ان قضى فقيرا ومعدمًا في الخامس عشر من آذار/مارس 2015...
 
اغاني علية التي غنت للوطن الجريح في حرب بنزرت، وللمحترقين بنار الحب، ولعشاق "تونس الجميلة" التي فتنت ابو القاسم الشابي، فمات متيما بحبها وهو في الخامسة والعشرين من عمره...
 
هذا الصباح ايقظتني اغنية السيدة نعمة التي تتغنى فيها بـ"مقهى الصفصاف" في ضاحية المرسى، في شمال العاصمة. هذا المقهى الذي لا يزال مسكونا بماضيه الرائع حيث كان فضاء للسهرات الصيفية الممتدة حتى الصباح، والمعطرة بروائح الفل والياسمين... وتختم السيدة نعمة اغنيتها هذه بمقطع من المالوف التونسي الاصيل:
أليف يا سلطاني والهجران
كواني
باء بليت بنظره
تاء ته يا نجم الزهرة
ثاء ثلاثة في حضره
 
وان كنت عشقت هذه الاغنية وانا فتى في ريف القيروان، احاول من خلال الاغاني والكتب ان استحضر المدن البعيدة واجواءها وسهراتها وجمال نسائها فيساعدني ذلك على نسيان جفاف العيش، وقيض الصيف، وبرد الشتاء في تلك الاحراش التي تقسو فيها القلوب، وتتعكر الامزجة، وتفسد الانفس بسبب القحط والجوع والاوبئة
التي تتهدد الناس في كلّ آن وفي كل حين....
 
كم كان يحلو لي ان استمع الى هذه الاغنية، وانا ممدد على سطح بيتنا في ليالي الصيف القائظة، فأرى نفسي ساهرا في "مقهى الصفصاف"، مرتشفا كأسا من الشاي المنعنع، ومتشمّما عطر الفل والياسمين، ومداعبا الحبيبة، وقد اغمضت عينيها في انتظار القبلة المشتهاة...
 
لم اكن اعشق فقط هذه الاغنية، بل غالبية اغاني السيدة نعمة ذات الصوت الساحر، والتي لها جمال بنات منطقة ”الوطن القبلي" المشرفة على صقلية، ذوات البشرة الخمرية، والشعر الذي يميل الى الشقرة، والعيون الشهلاء... أه كم قتلن من عشاق بنظراتهن، وبضحكاتهن المجلجلة في بساتين البرتقال والليمون!.
 
بدأت السيدة نعمة الغناء في سن المراهقة، وتحديدًا عندما تركت قرية "ازمور"، مسقط رأسها في المنطقة المذكورة لتستقر صحبة والدتها في الجزء العتيق من العاصمة. حدث ذلك في عقد الخمسينات من القرن الماضي. وسرعان ما لفتت انتباه كبار الفنانين والموسيقيين فاعتنوا بها، واحاطوها بالرعاية فاتحين لها ابواب "الرشيدية"، اشهر فرقة موسيقية في تلك الفترة. وبعد الاستقلال، كانت السيدة نعمة ضمن كوكبة من الفنانين والفنانات الذين صنعوا مجد الموسيقى التونسية في الستينات والسبعينات من القرن الماضي... وجميع هؤلاء رحلوا عن دنيانا .أما هي فلا تزال تقاوم المرض، ومتاعب الشيخوخة. وكم استاء التونسيون عندما اعتبرها الرئيس المؤقت السابق محمد المنصف المرزوقي في كتابه الاسود واحدة من "ازلام" نظام زين العابدين بن علي، محاولا تشويه صورتها، غير عالم، هو الذي لا يفرّق بين الشعوذة وفن السياسة، انها - اي السيدة نعمة - لا تنتسب الى أيّ نظام قديم او جديد، وانما هي ابنة تونس، ونجمة فنونها الاصيلة. فقط لا غير !
صباح الورد والياسمين سيدة نعمة!