أوائل شهر اكتوبر (تشرين الاول) 2015، في نهاية حفلة عيد ميلاد صديق فنان هولندي يقيم في باريس، استأثرت تونس بالجزء الأكبر والأهم من حديث الحاضرين وجميعهم من الفرنسيين.


في البداية، عبروا عن إعجابهم ب "ثورة الياسمين"، وبأولئك الشابات والشبان الذين واجهوا الرصاص بالزهور وبالإبتسامات وبالأيادي العارية وبشعارات تدل على سلوك متحضر، وعلى نضج ثقافي وسياسي.

ثم صمت الفرنسيون وبدا على وجوههم الإحراج والتردد. لم أشأ أن أتدخل لأني كنت أرغب في أن تأتي مبادرة مواصلة الحديث في الموضوع منهم لا مني، بعد دقائق نطقت سيدة فرنسية جليلة لتقول أن ما يحدث في تونس راهنا أمر محير للغاية. فالصورة المشرقة التي تميزت بها الثورة في بداياتها والتي كانت شبيهة الى حد كبير بصورة اسبانيا بعد موت الجنرال فرانسيسكو فرانكو، وبثورة القرنفل في البرتغال، تعتمت الآن وذبلت بل باتت مخيفة ومرعبة.

كما أنها لا تفهم أسباب البروز السريع للتيار السلفي الذي جعل الكثيرين ينظرون الى تونس المعروفة باعتدالها وانفتاحها ورفض شعبها للتطرف والعنف وكأنها أفغانستان جديدة.

وتساءلت السيدة ايضا عن اسباب تفشي الارهاب، والتحاق اعداد كبيرة من الشبان والشابات التونسيين بالتنظيمات الارهابية.

وردا على كلّ هذا قلت إن المسؤول عن الازمات التي تتخبط فيها تونس هي حكومة الترويكا التي حكمت البلاد بعد سقوط نظام زين العائدين بن علي، ومعها التنظيمات اليسارية المتطرفة. فالنهضة اعتقدت ان خطابها الديني والفقهي الذي يقسم التونسيين الى "مؤمنين"، و"كافرين"،أو "علمانيين" يمكن ان يصلح ما افسده نظام بن علي.

والتنظيمات اليسارية كانت تتوهم انه بامكان الشعارات الجميلة التي كانت ترفعها في تظاهراتها ان تقنع التونسيين بان الاستبداد قد ولّى والى الابد.

وعوض ان تنكب على اعداد برامج اقتصادية واجتماعية وثقافية واضحة، وجديّة، انشغلت النهضة والاحزاب التي افرزتها "ثورة الياسمين" باعداد دستور جديد تطلب ثلاث سنوات من العمل، وكلف ميزانية الدولة مبالغ ضخمة كانت السبب في الازمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها تونس راهنا.

وفي حين كانت حركة النهضة تستقطب المزيد من الأنصار وتتغلغل في الأوساط الإجتماعية الفقيرة، كانت القوى المعارضة لها تعيش نشوة الإنتصار الذي تحقق لها بسقوط نظام بن علي أسابيع قليلة ظانة أنها الوحيدة الجديرة بقطف ثمار ذلك الإنتصار. مهملة الشعب، وغير عارفة بطبائع مجتمع تعوّد على العيش في ظل القمع والتخلف والتقاليد البالية.

اكتفت هذه القوى بالمقولات النظرية المبهمة، وبالمقابلات الصحفية الحماسية وبالجدل العقيم حول مشاكل لا علاقة لها بالواقع.

والحقيقة أن حركة النهضة هي التي جرتها الى مثل هذا الجدل حتى تغرقها فيه فلا تستطيع الإقتراب من الشعب ولا إقناعه بأفكارها. بل من المؤكد أن انسياقها له جعل قسما كبيرا من التونسيين ينظرون اليها بارتياب وشك وخوف. بالاضافة الى كل هذا تفرقت هذه القوى الى أحزاب وفرق صغيرة كل واحدة منها يدعي امتلاك الحقيقة والقدرة على تسيير شؤون الدولة الجديدة. ولم تخلُ ممارسات البعض من هذه الأحزاب التي تكاثرت كالفطر بعد انهيار نظام بن علي من السذاجة ومن المثالية السياسية الصبيانية.

ثم جاءت انتخابات 23 أكتوبر (تشرين الاول ) 2011 لتكشف أوراق اللعبة كاملة، وتفضح ما كان مستورا أو متسترا عليه. فقد أحرزت النهضة على الأغلبية في المجلس التأسييسي المكلف إعداد الدستور. أما الأحزاب المعارضة لها فقد وجدت نفسها مهمشة وضعيفة وبلا قدرة على منافسة الغول الجديد بسبب الإنقسامات التي تشقها من الداخل وبسبب ضبابية رؤيتها السياسية وجهلها شبه التام لمقتضيات الواقع ولحقائق التاريخ.

ورغم الإنتصار الذي حققته فإن حركة النهضة واصلت سياستها التي تعتمد المبطن والظاهر لتضليل خصومها ولتضليل الرأي العام الداخلي والخارجي، ففي الظاهر هي واصلت خطابها المطمئن وكلامها المعسول عن الديمقراطية وتأكيدها على ضرورة احترام الحريات العامة والخاصة واعدة الفقراء بجنة على الأرض، لكن في الخفاء، شرعت هذه الحركة في انتهاج خطة للسيطرة على الدولة وعلى مؤسساتها بهدف إحكام قبضتها على البلاد والعباد. فقد راحت تشجع نمو وتوسع الحركات السلفية والجهادية المتطرفة خصوصا في أوساط الشباب الجامعي والتلاميذ.

في البداية، انحصرت نشاطات السلفيين في المدن والقرى الداخلية غير أنها لم تلبث أن اكتسحت العاصمة والمدن الكبيرة لتقوم بعمليات استعراض للقوة في الشوارع والساحات العامة متعمدة استفزاز المناهضين لها خصوصا المثقفين والفنانين كما حدث في الجزائر في بداية "سنوات الجمر".

ولم تكن حركة النهضة تتردد في الاستعانة بالسلفيين المتشددين لكي تصبح السياسة التي تعمل على فرضها أمرا واقعا ليس بالإمكان رفضه أو معارضته.

والغنوشي الذي وعد بالركون الى العبادة إثر عودته من المنفى،اصبح يتصرف وكأنه القيم وحده على شؤون الدولة فلا قرار يمكن أن يتم البت فيه إلا بمشورته وموافقته !

وفي النهاية قلت لاصدقائي الفرنسيين بأن الأمل الوحيد الذي بقي لتونس وللتونسيين هو أن تتمكن القوى الوطنية المتمسكة بمبادئ الجمهورية وبالإنجازات المهمة التي حققتها النخب المستنيرة سواء قبل الإسقلال أو بعده من التوحد والتوافق لمواجهة الوضع العسير، وانقاذ البلاد من المخاطر المتراكمة في الافق مثل سحب عاصفة هوجاء.