لا تكاد النشاطات الثقافية والفنية تنقطع في المعهد العالي للفنون بمدينة نابل، عاصمة منطقة الوطن القبلي المعروفة بجمال طبيعتها الجامعة بين البحر والجبل. فاخيرا، قام طلبة وطالبات المعهد بتزيين محطات الحافلات على الطرق بين المدينة وضواحيها، والمدن الأخرى القريبة منها. وهي بادرة رائعة في زمن فقدت فيه النظافة، والعناية بالبيئة. وفي كل شهر يقوم الدكتور هشام المسعودي بدعوة أساتذة من تونس وفرنسا وايطاليا وبلجيكا لإلقاء محاضرات حول قضايا فنية وفلسفية وادبية وغيرها.وجميع هذه المحاضرات تكون مشفوعة بنقاشات ثرية بين الطلبة والمحاضرين. وهذا ما حدث اخيرا. ففي قاعة مكتبة المعهد، وبحضور طلبة الماجستير، قدم أستاذ من المدرسة العليا للمعلمين بباريس، وآخر من جامعة جزيرة كالابريا الإيطالية عرضين مختصرين عن المصادر الأساسية للإبداع الفني والأدبي آنطلاقا من نصّ للفيلسوف الالماني الشهير مارتن هايدغر يتحدث فيه عن دور الفن في المجتمع، والمكانة التي تحتلها الأعمال الفنية في التاريخ. وهو يعتبر أن الثورات الحقيقية هي ثورات فنية، أما الثورات الأخرى فهي لا تعدو أن تكون مجرد احداث سياسية .لكن لا بد من الإشارة الى ان هايدغر لا يأخذ يعين الإعتبار الاّ الأعمال الفنية التي تحدث في المجتمع ما يسميه بـ"الرجة"، او الصعقة". لذلك أهتم في الدراسات التي كتبها بأعمال شعراء وفنانين كبار أحدثوا بأعمالهم هذه" الرجة"، أو هذه "الصعقة" مثل هولدرلين، وغيورغ تراكل، وفان كوخ.

في مداخلة لي تحدث انطلاقا من فكرة هايدغر عن المحطات الثقافية الأساسية في التاريخ التونسي المعاصر، مشيرا في البداية الى ان اليقظة الأولى كانت سياسية. فقد كانت تونس أول بلد عربي يعدّ دستورا حديثا وذلك في مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر. غير ان ذلك الدستور سرعان ما ألغي بسبب ما يسمى بـ"انتفاضة العربان" التي أندلعت في عام 1864. وبعد ذلك بسنوات قليلة، قام المصلح خير الدين باشا صاحب كتاب "أقوم المسالك في تحرير الممالك" بتأسيس أول مدرسة عصرية، أعني بذلك "المدرسة الصادقية"، التي سوف يتخرج منها رموز النخبة السياسية والثقافية التي ستلعب دورا مهما في النضال الوطني ضد الإستعمار الفرنسي. وفي بداية القرن العشرين، أصدر الشيخ عبد العزيز الثعالبي كتابا خطيرا بعنوان: "رسالة التحرر في القرآن"، وفيه دعا الى ضرورة الإستفادة من "حضارة العصر"، وهو يعني بذلك الحضارة الغربية. وفي كتابه، حث الشيخ الثعالبي على توخّي "الإجتهاد" في قراءة النص القرآني لكي يصبح متلائمًا ومنسجمًا مع منطلقات الحضارة المذكورة، محرضًا على التخلص من تقاليد الماضي، وعلى تدريس العلوم الحديثة، وعلى تحرير المرأة من كل العوائق التي تمنعها من المشاركة الفعلية والإيجابية في بناء "المجتمع الجديد". وقد أثار كتاب "رسالة التحرر في القرآن" ضجة كبيرة في الأوساط المحافظة والرجعية. لذا قامت بتكفير صاحبه، مطالبة بمحاكمته. وفعلا أمضى الشيخ الثعالبي ثلاثة أشهر في السجن. غير أن "الرجة" الثقافية الحقيقية حدثت في تونس مطلع عقد الثلاثينات من القرن الماضي. فمع ابي القاسم الشابي، ظهر شعر حديث لم يسبق له مثيل سواء في لغته، أو في مضمونه. وفي كتابه: "الخيال الشعري عند العرب"، انتقد الشابي انطلاقا من قراءته للشعراء الرومانسيين الغربيين الشعر العربي في مختلف العصور، مشككا في أن يكون العرب وحدهم امة الشعر في العالم، وساخرا من "رتابة" القصيدة العربية التي تبدو له شبيهة برحلة مملة في الصحراء القاحلة. في الفترة نفسها، ظهر ما يسمى بـ"جماعة تحت السور". وهم فتيان تركوا الدراسة مبكرا ليعيشوا حياة الصعلكة والبطالة، منصرفين الى قراءة بودلير، وفلوبير، وموباسان، وغوغول، وتشيكوف، وغيرهم من كبار أدباء الغرب. وفي مقهى"تحت السور" كانوا يمضون جل اوقاتهم، وفيه كانوا يكتبون قصصهم وأشعارهم وازجالهم ومسرحياتهم. كما كتبوا أغان جميلة لا يزال يرددها كبار المطربين والمطربات. لذلك يمكن القول أن "جماعة تحت السور "هم اول من أحدث "الرجة" الثقافية والفنية بحسب مفهوم هايدغر.

ولم تحدث "الرجة" الثانية الآ في الستينات من القرن الماضي. فبعد مرور عقد على حصول تونس على آستقلالها، ظهرت حركة ”الطليعة” التي لعبت دورا أساسيا في تطوير الكتابة في الشعر، كما في القصة والمسرح والنقد الأدبي. وقد تأثر رموز هذه الحركة بالحركات الطلائعية في فرنسا ليفتحوا آفاقا جديدة وفرت مناخا للتجديد، وللتمرد على القديم. غير أن هذه الحركة سرعان ما آنطفأت لتعيش تونس على مدى عقد السبعينات فراغا ثقافيا وفكريا مرعبا حيث آحتجبت الملاحق والمجلات الثقافية الجادة، وسكتت الأصوات الحرة لتعيش البلاد على وقع المحاكمات السياسية. وفي مطلع الثمانيات، جاءت "الرجة" الثقافية الثالثة. فقد عاشت تونس إثر الهجوم على مدينة قفصة من قبل عناصر مسلحة مدعومة من ليبيا، "ربيعا" ديمقراطيا قصيرا اتاح ظهور حركات طليعية في مجال الأدب والفن. وقد تمكن رموز هذه الحركات من فرض وجودهم آعتمادا على نصوص مسكونة بالتمرد والثورة على الجمود، والرقابة، والتزمت. لذلك لا يزالون يتمتعون بحضور قوي رغم أن أغلبهم تجاوزوا سن الستين، أو رحلوا عن الدنيا مثل الشاعر الصغير اولاد احمد. أما "ثورة الياسمين"، أو "ثورة الحرية والكرامة" التي أسقطت نظام زين العابدبن بن علي فقد كانت مجرد حدث سياسي كما هو الحال بالنسبة لـ"انتفاضة العربان". بل أن هذه "الثورة" مثلت خيبة كبيرة وموجعة للكثير من المثقفين والفنانين التونسيين خصوصًا بعد أن عاينوا أن البعض من القوى السياسية التي برزت في المشهد السياسي خلال الأعوام الخمسة الماضية، أظهرت عداءها للفن والثقافة والفكر الحر. بل أنها قامت في أكثر من مرة بالإعتداء على فنانين وشعراء، وتكفيرهم وتشويه سمعتهم مثلما فعل الرئيس المؤقت السابق محمد المنصف المرزوقي من خلال كتابه "الأسود" السيء الذكر!