فجر يوم 20 فبراير (شباط) 1930، كانت عاصفة هوجاء تهزّ تونس العاصمة. وكان البرد لاذعا. وفي شارع الفريد-اوكران كلاي، كان الثريّ اليهودي الياهو ميموني يلتهب حقدا وغيضا وغيرة. فقد بات متأكدا أن عشيقته فائقة الجمال الفنانة الشهيرة حبيبة مسيكة التي أحبها كما لم يحب آمرأة في حياته، قد تخلت عنه،ولم تعد ترغب في لقائه والتحدث اليه. وفي آخر لقاء معها امام باب العمارة التي تسكنها في الشارع المذكور، قالت له: ”انصحك بأن تنساني فكما لو أنك لم تعرفني أبدا ...وعليك أن تعلم أنني لست ملكك ولا ملك غيرك!".

أوجدته تلك الكلمات القاسية، ومزقت قلبه فعاد الى قصره الفخم وهو يترنّح يائسا وذليلا. ولم ينم لا في تلك الليلة، ولا في في الليالي التي اعقبتها. وعندما يفاجئه ضوء النهار يرتعب. فهو لم يعد يطيق التحدث الى زوجته، وأبنائه وعماله وأصدقائه ومعارفه. وفي كل يوم، يزداد يأسا وقنوطا من حياة لم يعد يسمع فيها عشيقته تردد أغاني الحب في السهرات الجميلة التي يقضيها معها في بساتينه في أيام الربيع الزاهية، ولم يعد يراها ترقص عارية قبل أن ترتمي في أحضانه ليذوب في حبها!

توقف أمام العمارة. نظر يمنة ويسرة. لا أحد غيره في الشارع، ولا صوت غير فحيح الرياح. صعد المدارج وقلبه يخفق بشدة، وفتح باب الشقة التي آحتفظ بنسخة من مفتاحها الأصلي. على أطراف قدميه، آقترب من الفراش ليرى عشيقته غارقة في نوم عميق، ووجهها متألق بالحب والجمال. ودّ لو يقبلها. غير أن نار الغيرة آلتهبت من جديد حتى أنه شعر أنها تأكل جسده وروحه. فتح القربة وبسرعة أسال البنزين على الفراش ،وعلى أرضية الشقة ،ثم أشعل النار، وفرّ هاربا...وعندما أخمدت نيران الحريق ،كانت حبيبة مسيكة نجمة الفن والغناء والمسرح في العاصمة التونسية آنذاك،جثّة متفحّمة.في جنازتها سار آلاف من التونسيين من جميع الطوائف وبكوها بحرقة لتتحول الى أيقونة في تاريخ الثقافة التونسية.

في عام 1903، في الحيّ اليهودي بالعاصمة التونسية ،ولدت فتاة سماها والداها مارغريت. وبعد أن تعلمت القراءة والكتابة في "الجمعية اليهودية"، آنصرفت الى تعلم الموسيقى بمساعدة خالتها ليلى سفاز التي كانت سيدة مثقفة ومتحررة تتمتع بشخصية قوية،وعن أفكارها المنتصرة لحرية المرأة ،كانت تدافع بقوة من دون ان تخشى لا سطوة رجال الدين اليهود، ولا رجال الدين المسلمين.

في نفس هذه الفترة، تعرفت مارغريت ذات العينين الخضراوين،والشعر الحريري المائل الى الشقرة، والقامة الهيفاء،والجمال الصاعق على الفنان الكبير خميس الترنان، ذي الأصول الأندلسية ، والذي سيكون له تأثير هائل على تطور الموسيقى والغناء في تونس على مدى النصف الأول من القرن العشرين، فآهتم بها ،وآعتنى بموهبتها،وساعدها لكي تكسب شهرة واسعة في ظرف زمني قصير. وباقتراح منه، أصبحت تدعى حبيبة مسيكة.

في البداية تزوجت من ابن عمها عمها فيكتور شنون غير أنها سرعان ما آنفصلت عنه لتعيش قصة حب مع عزيز ، وزير القلم في زمن البايات ،الذي كان يستقبلها في سهراته الباذخة بقصره الجميل على شاطئ ضاحية المرسى.وعندما آزدادت شهرتها اتساعا ،تجمع حولها شبان من العائلات المترفة، ومعها كانوا يمضون السهرات الملاح ،ويحمونها من غيرة عشاقها الكثيرين. لذا سمي هؤلاء بـ"عسكر الليل" إذ أنهم لا يظهرون حولها الاّ عند حلول الظلام. وفي مطلع عقد العشرينات من القرن الماضي، سافرت حبيبة مسيكة الى باريس ، "مدينة الأنوار" للتعرف على الحياة الفنية فيها.وبفضل ما كانت تتمتع به من جمال و مواهب،تمكنت من التعرف على شخصيات فنية كبيرة مثل بيكاسو الذي أبدى اعجابا كبيرا بها،وفنان الموضة الشهير كوكو شنيل الذي قال عنها: "حبيبة لها طبع ناري تحت لطافتها الشرقية.وسوف تفرض باريس في شمال افريقيا".

وبعد عودتها من رحلتها الفرنسية ،لعبت أدوارا رئيسة في مسرحيات كثيرة مثل "مجنون ليلى"، ومسرحيات شكسبير.وقد روى الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة أنه صعد معها الى الركح أكثر من مرة، وانه تمكن من أن يقبلها في غفلة من الممثلين الآخرين.وفي عام 1925، لعبت دور روميو في مسرحية "روميو وجولييت" ،وقامت بتقبيل رشيدة لطفي الفنانة اليهودية الليبية التي لعبت دور "جولييت" ، فاستبد الغضب بالمتفرجين. ولولا "عسكر الليل" لكانوا احرقوا القاعة.وعلى مدى أشهر طويلة،ظل اهالي العاصمة يتحدثون في مجالسهم الخاصة والعامة عن تلك القبلة الشهيرة.وفي عام 1928، لعبت حبيبة مسيكة الدور الرئيس في مسرحية"شهداء الحرية" التي اغاضت السلطات الإستعمارية فقامت بمنعها ، واستجوبتها بتهمة مناصرة الحركة الوطنية التونسية.

في هذه الفترة عشقها الأمير فؤاد الذي سيصبح ملك مصر في ما بعد.وكان يراسلها،ويبعث لها بالهدايا الثمينة.وفي هذه الفترة أيضا عشقها الثري اليهودي الياهو ميموني الذي كان آنذاك في الخمسين من عمره.ومن شدة تعلقه بها بنى لها قصرا فخما، وخصص لها خدما وخادمات للسهر على راحتها. غير انها سرعان ما ضاقت به ،فقطعت علاقته به لتعيش قصة حب محمومة مع الشاب منذر المحرزي الذي كانت تعرفه منذ سنوات الطفولة.ولم يتحمل الياهو ميموني الإهانة التي لحقت به فكان ما كان .