سمحت لي رواية "تمثال الملح" للكاتب اليهودي التونسي ألبير ممي بالتعرف على جوانب مهمة من الحياة الاجتماعية والثقافية في الفترة الفاصلة بين الحربين الكونيّتين. كما أضاءت لي هذه الرواية حياة يهود"الحارة" في الجزء العتيق من العاصمة، والتي ولد فيها ألبير ممي في. الخامس عشر من شهر ديسمبر(كانون الاول) 1920. 

لقد قرأت روايات اخرى لهذا الكاتب الذي لا يزال يفتخر باصوله التونسية، غير أن روايته المذكورة آنفا تظلّ الأفضل بالنسبة اليّ. فالشاعرية التي تتميّز بها من الناحية الأسلوبيّة واللغويّة تتيح لها أن تكون على المستوى المغاربي واحدة من أجمل الروايات التي كتبت باللغة الفرنسية في النصف الأول من القرن العشرين. بالإضافة الى كلّ هذا هي تمثّل وثيقة مهمة وأساسيّة لفهم التاريخ التونسي المعاصر خلال الفترة الاستعمارية. 

ينتمي البير ممي الى عائلة يهوديّة فقيرة. فقد كان والده فرانسوا يبيع البرادع للحوذييّين المالطيّين، والعتّالين النازحين من قابس الى العاصمة. اما والدته مارغريت السرفاتي فكانت يهودية بربريّة. والاثنان كانا يتكلمان الفرنسيّة. 

ولأنه كان لامعا، ومتفوقا في الدراسة، فان البير ممي حصل على منحة خوّلت له الدخول الى المعهد الثانوي. فكان ذلك حدثا مهمّا شكّل منعرجا في حياته. وأما الحدث المهم الاخر فقد تمثّل في تعرفه على استاذ كان يدرّس الفلسفة. وكان هذا الاستاذ متحررا في افكاره، ومدافعا بحماس عن فلاسفة التنوير من امثال فولتير، وروسو، وديدرو. ومن المؤكد ان الفتى البير تأثر كثيرا بهذا الاستاذ، وتشبّع بافكاره التحررية. وفي ما بعد سيظلّ وفيّا له ذلك انه فتح امامه افاقا واسعة، وحرره من التاثيرات الدينية بالخصوص. لذلك لم يتردد في الانضمام خلال سنوات المراهقة الى منظمة يهودية لائكيّة. 

غير ان انضمامه الى تلك المنظمة لم يدم طويلا إذ سرعان ما شعر بانها-أي المنظمة-تحد من حريته الشخصية، ومن استقلاليته الفكرية. وكان البير ممي في العشرين من عمره لما وجد نفسه في احد المعسكرات النازية التي اقامها الالمان خلال الحرب الكونية الثانية. 

وعند انتهاء الحرب، التحق البير ممي بالجامعة الجزائرية، ثم بجامعة السربون بباريس. وهناك تزوج من فرنسية كاثوليكية كانت تتقن الالمانية، وعاد الى تونس ليدرّس الفلسفة. وفي هذه الفترة كتب "تمثال الملح"، ثم ارسلها عبر الناشر الفرنسي موريس نادو الى جان بول سارتر الذي كان قد بعث للوجود مجلته الفكرية التقدمية "الازمنة الحديثة". وقد أعجب عرّاب الفلسفة الوجودية بهذه الرواية، وكتب لها مقدمة مشيدا باسلوبها، وببنيتها التقنية. وبعد صدورها، اصبح البير ممي يحظى بتقدير القراء والنقاد. 

وفي مطلع الخمسينات، التحق ممي بـ "المركز الوطني للبحوث الاجتماعية". وكان هذا المركز يمثل بالنسبة اليه "مؤسسة رائعة تستقبل كل الصيادين الضائعين في البحر". غير أنه سرعان ما انتبه الى أنه يعامل بقسوة باعتباره"يهوديا تونسيا". 

ومن وحي هذه التجربة المرّة، كتب "صورة المستعمَر". واستقبل هذا الكتاب بحفاوة كبيرة من قبل المثقفين الفرنسيين التقدميين. ولم يتردد سارتر في كتابة مقدمة عبّر فيها عن تقديره الكبير لالبير ممي، معتبرا اياه مفكرا مدافعا عن قيم الحرية والكرامة الانسانيّة. غير ان الكتاب هوجم من قبل القوى اليمينية الفرنسية. لذلك كان على صاحبه ان ينتظر حتى عام 1967 ليحصل على جنسية بلاد فولتير. وتمّ له ذلك بفضل تدخّل كلّ من ادغار بيزاني، وليون هامون اللذين كانا يمثلان الجناح اليساري في الحزي الديغولي (نسبة الى الجنرال شارل ديغول). ولم يكن البير ممي محبا لتدريس الفلسفة. وكان يقول: "الفلسفة الاكاديمية والتجريدية لا تستهويني". 

وهي لاتنسجم معي. وهي بالنسبة لي فلسفة لغوية، وبالتالي هي ثرثرة نظريّة. أنا قادم من بلد فقير فيه الامراض والحرب والموت. وانا اعتقد ان على الفلسفة ان تتجذّر في الواقع الموضوعي، وفي حياة الناس". 

وفي كتابه "صورة يهودي "، يهتم البير ممي بوضعيّته الصعبة عندما قدم الى فرنسا في سنوات الشباب. وهو القادم من بلاد مسلمة، لم يكن يتصوّر ان يجد نفسه في بلد كاثوليكي فيه تقرع الكنائس اجراسها، وفيها تحمل مدن وقرى اسماء رجال دين. كما لم يكن يتصور ان فرنسا التي اصبحت لائكية بعد ثورة 1789 يمكن ان تشكّل تهديدا ليهوديّ مثله. 

وقد اثار هذا الكتاب غضب اندريه بيلي، عضو اكاديمية غونكور، والمحرّر في جريدة "لوفيغارو". لذلك كتب يقول: "اذا ما شعر السيد البير ممي بان وضعه في فرنسا ليس على ما يرام، فانه من حقّنا ان نتساءل: واين يمكن ان يكون وضعه جيّدا؟ثم ونحن نقرأ كتابه (صورة يهودي)، نستنتج في نهاية المطاف ان مسألة اليهودي اذا ما عولجت بهذه الطريقة فانها تظل من دون حلّ". 

وقد ردّ البير ممي على ذلك قائلا:”لقد طرحت مسالة موضوعية وما اعنيه باليهودي، لا يعني التعلق بثقافة. وكما هو الحال بالنسبة الى المسلمين حيث هناك خلط بين الدين والثقافة، فان كل الشعوب التي لم تستوعب العلوم الحديثة لا يمكنها ان تفرّق بين الدين والثقافة". وفي مجمل رواياته، ظلّ البير ممي منجذبا الى الاساليب الكلاسيكية، ولم ينجذب ابدا الى التيّارات الطلائعية التي برزت في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وكان يردّد دائما ان معلميه الكبار هم أونور دو بالزاك، وأميل وأميل زولا، وباسكال، وديكارت، وغوستاف فلوبير. 

وخلال السنوات الاخيرة، انشغل البير ممي بالكتابة عن السعادة. وهو يقول:”البعض يتهمونني بالغرق في الغبطة والسعادة. لكن لماذا ناضلت انا طوال سنوات وسنوات؟اليس لكي يكون الناس سعداء؟".