تحتفل ألمانيا بالذكرى الخامسة والعشرين لسقوط جدار برلين، وبيوم الوحدة الألمانية، الذي يصادف في 3 تشرين الأول (أكتوبر). لكن تستمر الجدران الاجتماعية والاقتصادية والنفسية غير المرئية في الحياة الألمانية.


ماجد الخطيب من برلين: ركزت معظم التقارير السنوية، التي صدرت بمناسبة سقوط جدار برلين، على الفوارق الاقتصادية والاجتماعية، وخصوصًا ارتفاع معدلات البطالة في الولايات الشرقية الخمس، واستمرار الفرق بين رواتب الشرقيين والغربيين من المؤهلات نفسها، وتصاعد مشاعر النقمة والإحباط، وتحول المواطن إلى لقمة سائغة لليمين المتطرف.

الهجرات الألمانية
لا يمكن فصل الجانب الديموغرافي عن الوضعين الاقتصادي والسياسي، فقد ترك بصماته على مدن الشرق، بعد مرور ربع قرن من انهيار الجدار العازل بين شطري ألمانيا. فقد كانت العوامل السياسية هي المقررة في التحولات التي طرأت على خريطة شرق ألمانيا الديموغرافية، لأن تعداد ألمانيا الديمقراطية زاد بعد الحرب العالمية الثانية، بسبب الهجرة من الغرب إلى الشرق، ثم عاد وانخفض من 19 مليونًا إلى 16.4 مليونًا بعد بناء جدار برلين بسبب الهجرة المعاكسة.

فقدت ألمانيا الشرقية 750 ألفًا من سكانها في العام الأول، الذي أعقب سقوط الجدار، ثم فقدت 1.25 مليون بالتدريج حتى العام 2012. وشهدت ألمانيا، منذ الوحدة الألمانية، اختلالًا ظاهرًا في سوق العقارات، سببه الهجرة الجماعية من الشرق إلى الغرب. ففي حين فقدت مدينة شرقية كبيرة، مثل لايبزيغ، 20% من سكانها، وانخفضت أسعار العقارات فيها إلى 50%، ارتفعت أسعار العقارات في العاصمة برلين بنسبة 39% خلال السنوات الثماني الماضية.

فقر في الشرق تضخم في الغرب
ارتفع عدد الولايات الألمانية من11 إلى 16 ولاية بعد الوحدة الألمانية في مطلع تسعينات القرن الماضي. وتكشف معطيات دائرة الإحصاء المركزية أن الولايات الشرقية الخمس فقدت الكثير من سكانها منذ سقوط الجدار، وبلغت هذه النسبة 20% في ولاية سكسونيا انهالت (عاصمتها ماغدبورغ)، وفقدت ولاية تورنجن (عاصمتها إيرفورت) 15.6% من سكانها، وفقدت مكلنبورغ فوربومرن (عاصمتها شفيرين) 15.4% من سكانها، وفقدت سكسونيا (عاصمتها دريسدن) 13.4% من سكانها، وبراندنبورغ (عاصمتها بوتسدام) 3.7 %. والعاصمة برلين، رغم توحد شطريها وسقوط الجدار، فقدت 2.5% من سكانها.

وارتفع عدد الألمان في معظم الولايات الغربية، وخصوصًا في بافاريا (8%)، وشليسفجهولشتاين (6%) وبادن فورتمبيرغ (5.7%) وسكسونيا السفلى (4.1%).

العجيب هو أن مجموع سكان ألمانيا بشطريها لم يزد بأكثر من 300 ألف نسمة خلال ربع قرن، وتعزو دائرة الإحصاء ذلك إلى الوافدين الأجانب. والسؤال هنا هو: "أين يتسرب هذا العدد المليوني من المهاجرين الشرقيين؟". ربما يكمن الرد بين عدد مماثل من الألمان، غربيين وشرقيين، يهاجرون إلى الخارج بحثًا عن فرص حياة أفضل.

هجرة تعمق الأزمة
تعترف إيريس غيلكة، المفوضة البرلمانية لشؤون شرق ألمانيا، بأن الاقتصاد في ألمانيا الشرقية يسير ببطء شديد منذ سنوات، لكنها تعترف أيضًا بأن بعض المتشائمين يتحدثون عن وصول اقتصاد الشرق إلى طريق مسدود.

تبلغ نسبة البطالة في الولايات الشرقية نحو 11 بالمائة، وترتفع إلى 15% في مدن كبيرة، مثل لايبزج ودريسدن. لكن الشرق فقد 11% من سكانه خلال الفترة نفسها كمعدل، وهي نسبة رائدة عالميًا مقارنة بظاهرة التمدن، التي يعيشها العالم. ويشير تقرير غيلكه بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لسقوط الجدار أن الشرق سيفقد 40% من سكانه بحلول العام 2030.

ولاحظ التقرير، في السنوات الأخيرة، وجود هجرة معاكسة، ولكن ضئيلة، من الغرب إلى الشرق، إذ استهل بعض الشرقيين المهاجرين طريق العودة إلى مدنهم الشرقية، بسبب فقدان الأمل بالحصول على عمل، أو بسبب الفشل في تكوين حياة اجتماعية ناجحة في الغرب، أو بسبب الحنين. فانخفاض أسعار العقارات في الشرق كان سبب هجرة الغربيين المعاكسة.

هجرة ضئيلة
تم رصد هجرة بعض الغربيين إلى الريف الشرقي بسبب خلاء المدن الشرقية من سكانها، وانخفاض أسعار العقارات في شرق ألمانيا. وهم في الغالب من متقاعدي ومسني ألمانيا الغربية، الذين لا توفر مدخراتهم الضئيلة إمكانية شراء عقار أو توفير لقمة العيش في مدن الغرب الغالية. وهي هجرة ضئيلة، يؤلف المسنّون معظمها، ولايمكن التعويل عليها في موازنة الحركة الديموغرافية بين الشرق والغرب. عمومًا، يشكل الشرقيون المهاجرون إلى الغرب تحت سن 50 سنة نسبة 93% من مجموع المهاجرين.

تمنح بعض المدن الشرقية، ومنها لايبزج، تسهيلات عظيمة لمن يود العيش أو فتح محل شاورما صغير في أروقتها. ويمكن للمنتقل الجديد إلى بعض مدن الشرق الألماني الاكتفاء بدفع فواتير الماء والكهرباء، وعدم دفع الإيجار، إذا أراد البقاء في هذه المدن.

المهم أيضًا هو أن هجرة النساء الشابات والمتعلمات من ريف الشرق إلى مدنه، وإلى المدن الغربية أساسًا، أخلت بالتركيبة السكانية، وصار الريف الشرقي ينتقص للنساء، بل إن بعض القرى والبلدات ألغت رياض الأطفال لعدم الحاجة إليها.

ألمانيا مهددة
إن ما ذكرناه من عوامل ديموغرافية لا تمنح الشرقيين فرصة كبيرة لتحسين اقتصادهم. فالأيدي العاملة قليلة، والخبرات والكفاءات العلمية تهاجر، والهياكل الارتكازية قديمة وضعيفة التأهيل. وهذا ما تعترف به غيلكه في تقريرها السنوي أيضًا. وفيما يناقش الاقتصاديون أفضل سبل النهوض بالاقتصاد في الشرق، تتحدث غيلكه بنبرة متشائمة.

وذكرت في تقريرها أن الولايات الشرقية تتلقى دعمًا أقل فأقل من الاتحاد (الحكومة المركزية)، واتفقت الحكومة المركزية على إيقاف ضريبة بناء الشرق التي فرضت منذ عام الوحدة على الجميع. كما ستوقف الحكومة الاتحادية دعمها (ما يسمى صندوق التضامن بين الولايات) منذ عام 2020، وهذا يعني تقليل فرص إعادة البناء، والتمهيد إلى موجات هجرة جديدة من الشرق إلى الغرب.

عودة الشيوعية
أطلق المستشار السابق هيلموت كول، في خضم حملته الانتخابية لعام الوحدة 1990، وعودًا إلى الشرقيين بمساواتهم اقتصاديًا مع الغربيين خلال سنوات قليلة، وهو ما لم يتحقق حتى الآن. وكان ما بدأه كول ككذبة انتخابية بيضاء بداية نقمة وحقد ظاهرين، تحولا مع مرور الوقت إلى رصيد شعبي تمتع به النازيون والشيوعيون في شرق ألمانيا.

وليست للنازيين تنظيمات قوية في شرق ألمانيا، لكنّ لديها جمهوراً عريضاً من المؤيدين الناقمين على الوضع وغير المؤدلجين. المستفيد الأكبر من الانهيار الاقتصادي في الشرق، وارتفاع نسب البطالة، كان حزب الاشتراكية الديمقراطية (الاسم الجديد للحزب الشيوعي في الشرق)، الذي نزع عنه شرقيته في السنوات الأخيرة، ونجح في تشكيل تحالف كبير مع يساري الغرب باسم "حزب اليسار".

وتشير إحصائية معهد اللينزباخ، بحسب آخر استطلاع للرأي، إلى أن اليسار سينال في انتخابات الولايات الشرقية المقبلة نسبة 29.7% من أصوات الناخبين، ويصبح بالتالي القوة البرلمانية الأكبر في كل الولايات الشرقية الخمس. وسينال الحزب الديمقراطي المسيحي، حسب هذا الاستطلاع، 26.4% والحزب الاشتراكي 23.3%. وتوقع الاستطلاع أن يفرض اليسار نفسه على الغرب أيضًا، بمعدل 14%، ويتجاوز بالتالي حزبًا تقليديًا مثل الحزب الديمقراطي الحر (10%) وحزب الخضر (8.9%).

تأسس "اليسار" من وحدة صفوف "حزب الاشتراكية الديمقراطية" و"الرابطة اليسارية من أجل المساواة والعدالة الاجتماعية". وفي حين يعتبر حزب" الاشتراكية الديمقراطية" الوريث الشرعي للحزب الاشتراكي الألماني الموحد، الذي حكم ألمانيا الشرقية طوال 55 سنة، ضمت الرابطة اليسارية شيوعي الغرب والمتمردين على الحزب الاشتراكي الديمقراطي (الجناح اليساري) وعددًا من زعماء النقابات العمالية.

وكان خروج الجناح اليساري في الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وتمردهم على الكتلة البرلمانية للحزب، من أهم عوامل فشل حكومة جيرهارد شرودر الثانية وتدهور أكثريته البرلمانية أمام المحافظين. وهو الأمر الذي مهد إلى قرار تعطيل البرلمان وإجراء الانتخابات المبكرة التي فازت بها المستشارة الحالية أنجيلا ميركل سنة 2005.

&