حين يعجز الإنسان عن طرد موسيقى معينة من أذنه يسمي الألمان هذه الموسيقى "دودة اذن". يبدو أن العلماء الأميركيين صار في إمكانهم الاستماع إلى موسيقى تدور في دماغ الإنسان، تسرّه أو تزعجه.

ماجد الخطيب: ليست الأفكار والايعازات الدماغية المختلفة أكثر من تيارات كهربائية صغيرة تدور بين خلايا الدماغ، يجري العمل عليها في مركز ما مسؤول عنها. ويبدو أن الموسيقى ليست غير ذلك، ولذلك تمكن العلماء من الاستماع إلى التيارات التي تنقل "موزارت"، وتلك التي تنقل "باخ".

تمييز معزوفات

وذكرت الباحثة نينا كروز، من جامعة نورث ويسترن ايفانستون (شيكاغو)، أمام مؤتمر "الجدران المنهارة" في العاصمة الألمانية برلين انها استطاعت، من خلال تسجيل التيارات الكهربائية التي تدور في الدماغ، معرفة أي موسيقى يستمع إليها الإنسان. ويمكن لمثل هذا الاكتشاف، من ثم، فتح مجال العلاج بالموسيقى أمام ملايين المرضى الذين يعانون من أمراض نفسية وجسدية واجتماعية.

واستعرضت البروفيسورة كروز أمام أعضاء المؤتمر كيف تمكنت من تمييز معزوفة "موسيقى مسائية قصيرة" لموزارت في دماغ إنسان من خلال قياس التيارات الكهربائية في دماغه بواسطة جهاز تخطيط الدماغ. وقالت إن ذلك ينطبق على أنواع الموسيقى الأخرى، سواءً كانت بوب ميوزك أو روك.

استنتجت الباحثة من هذا الانجاز أن الدماغ يحتفظ بالموجات التي تنقلها أذن الإنسان لفترات طويلة مثل جهاز التسجيل. وهناك معلومات موسيقية وافرة يمكن تسجيلها من دماغ كل إنسان، يمكن استخدامها مستقبلًا في تهدئته أو اثارته.

وكشفت التجارب المختبرية أن لكل إنسان موسيقاه التي يهواها في دماغه، وأن ما بدا في البداية مثل "لعبة لهو"، أي أن يكشف الواحد للآخر ما يدور في عقله من موسيقى، ظهر انه علم بحد ذاته، إذ كانت بعض القطع الموسيقى ذات ترددات وصدى واضح، وهي المفضلة لدى الإنسان، بينما كانت الأخرى أقل ترددًا وأكثر خفوتًا وابهامًا من غيرها. وهذا يكشف للعلماء كيف يعمل الدماغ على استيعاب الموسيقى والتعامل معها.

قابليات الأطفال الموسيقية

لا تقتصر الفوائد من هذه التجارب على اكتشاف الموسيقى الملائمة لمعالجة المرضى فحسب، وإنما تمتد للكشف المسبق عن قابليات الأطفال الموسيقية. إذ استطاعت كروز، في مختلف المتطوعين، أن تسجل الترددات الكهربائية الصوتية في النهايات العصبية للخلايا الدماغية بواسطة جهاز التخطيط. وساعدها ذلك، في التجارب مع الأطفال، على كشف قابليات الأطفال الموسيقية وقدراتهم التعليمية أيضًا.

وأضافت الباحثة انها وجدت عند تلاميذ المدارس نهايات عصبية معرفية أكثر من غيرهم، وهذا يكشف في الصغر، باستخدام قطبين كهربائيين فقط، مدى قابلية التعلم، وتعلم الموسيقى على وجه الخصوص، حين يبلغ الطفل مرحلة المدرسة. هذا يفتح الباب، من خلال قياس مدى قابلية استقبال الدماغ للموسيقى، أمام التعرف على قابليات الطفل الأخرى في الرياضيات والعلوم...إلخ.

النتيجة الأخرى التي كشفها فريق العمل الاميركي، بقيادة نينا كروز، هو أن أطفال القادمين من أبوين عاليي التعليم، يحملون في أدمغتهم من النهايات العصبية المرهفة للصوت، أكثر من أطفال غيرهم. هذا يكشف قابلية مسبقة على التعلم والتقدم الدراسي. واعتبرت الباحثة مثل هذه الاستنتاجات مؤشرًا على مستقبل الطفل الدراسي والاجتماعي، مشيرة إلى أن من في دماغه نهايات عصبية موسيقية أقل، من الأطفال، لن تتوقع له مستقبلًا دراسيًا ولا اجتماعيًا باهرًا.

آلة موسيقية تعين في الدراسة

يضع تسجيل الموسيقى الدماغية أمام التربويين مستقبلًا مهمة اكتشاف الأطفال المتلكئين دراسيًا مسبقًا بواسطة "المسح الدماغي الموسيقي"، ومن ثم البدء بتطوير سعة أدمغتهم الموسيقية عن طريق تعليمهم العزف على آلة موسيقية معينة.

اعتبرت كروز مثل هذا المسح الدماغي الموسيقي "إجراءً وقائيًا" ضد حالات التلكؤ الدراسي، وضد بعض الأمراض النفسية التي يعتبر بعض الأطفال، وبعض الناس، معرضين لها أكثر من غيرهم. وواضح، بالنسبة إلى الباحثة، أن مثل هذا العلاج سيحتاج إلى وقت طويل وتمرين طويل أيضًا.

استخدمت كروز مثل هذه الإجراء الوقائي عند بعض الأطفال، الذين كشف المسح الدماغي وجود نهايات عصبية موسيقية أقل في أدمغتهم. وتعترف كروز بأن تعليم الموسيقى، الذي ترافق مع تعلم العزف على آلة موسيقية لمدة سنة، لم ينفع في رفع عدد النهايات العصبية المستقبلة للموسيقى في أدمغة الأطفال. لكن النتائج كانت إيجابية بعد سنتين من التعلم والعزف المستمر، وظهر ذلك من خلال ضمور الوشوشة في تسجيل الموسيقى من الدماغ، وارتفاع عدد المستقبلات العصبية.

قدرات دماغية

استغل فريق العمل من جامعة ايفانستون القدرة على تسجيل الموسيقى من الدماغ للكشف عن مدى صحة الادعاء القائل إن دماغ الموسيقيين أكثر استيعابًا وقدرة من أدمغة غير الموسيقيين.

تقل، مع تقدم العمر، قدرة تركيز الإنسان على تمييز أصوات عدة متكلمين في أن واحد في حفلة صاخبة واحدة، وواضح أن هناك "آلية ترشيح" دماغية تعين الإنسان في ذلك، لكنها تتراجع مع مفارقته سن الشباب بالتدريج.

فحص فريق العمل قدرات انسانين مسنين، أحدهما موسيقي والآخر غير موسيقي، بعد استماعهما إلى تسجيل صوتي يتحدث فيه عدة أشخاص في حفلة صاخبة، ثم مسحت دماغي الاثنين بواسطة التخطيط الدماغي. وسجل الباحثون من دماغ غير الموسيقي كلمات مبهمة لا يمكن فهمها، في حين سجلوا من دماغ الموسيقي، الذي كان يعزف آلة موسيقية طوال عمره، على أصوات متميزة وجمل مفهومة. تم الاستماع إلى الأصوات بواسطة مكبرة صوت استلمت "الضوضاء" من مستقبلات الصوت في الدماغ، واعتبرت كروز النتيجة على انها دليل على قدرة الموسيقى على الاحتفاظ بـ"شباب" الدماغ.

ضوضاء نيورونية

وهذا ليس كل شيء، لأن المسح أثبت وجود "ضوضاء نيورونية" أقل في أدمغة الموسيقيين تعينهم مجددًا في التمييز بين مختلف الأصوات، بما فيها أصوات عدة أفراد في حفلة موسيقية صاخبة.

واعتبرت الباحثة تعلم الموسيقى وعزفها "تمرينًا" دماغيًا يجدد شباب الدماغ. فضلًا عن ذلك، كان الموسيقي، في التجارب المختبرية، قادرًا على تمييز صوت الآلة الموسيقية التي تعود على عزفها، والتي يعزفها غيره، بين ضوضاء العديد من الآلات الموسيقية المختلفة.

أجرت كروز تجاربها على آلاف البشر، وطوال سنوات، ومن أعمار تتراوح بين صفر إلى 90 سنة، وتوصلت إلى نتيجة عامة مفادها أن تعلم الموسيقى وعزفها يحسن التواصل الاجتماعي والعقلي بين الناس.
وتحدثت عن طريقة قراءة الموسيقى الدماغية كطريقة علاجية واعدة في الأمراض النفسية والاجتماعية، ناهيكم عن تحسين التحصيل الدراسي للتلاميذ الصغار.

تأثير سحري على النباتات

يعرف العلم منذ عقود عن تأثير الموسيقى المختلفة على نمو وغلة المحاصيل والاثمار وغيرها.

وسبق لمختبر "يوليش" الألماني للدراسات النباتية أن أجرى دراسة على نمو عباد الشمس بتأثير مقطوعات مثل "مشاهد الغابة" لروبرت شومان و"فالس الوردة" لتشايكوفسكي و"رقصة الزهور" لماكس فون شيلينغ.

وأثبت المختبر علميًا أن عملية التركيب الضوئي كانت أفضل بكثير في زهور عباد الشمس التي استمعت إلى الموسيقى الكلاسيكية بالمقارنة مع الزهور التي استمعت إلى موسيقى الروك، أو مقارنة بتلك التي لم تحرك سيقانها على أي ايقاع.