يرى مراقبون أن توجّه الحكومة الفرنسية بعد هجمات الجمعة الدامية في باريس نحو إعطاء الأولوية للأمن وفرض حال الطوارئ على حساب قضايا أخرى، إنما يزرع بذرة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، بل ويدفعه نحو التشرذم أيضًا. ما سيمثل انتصارًا للإرهاب، الذي يسعى إلى نسف النموذج الأوروبي في السلام والحريات والتعاون والانفتاح.


إعداد ميسون أبوالحب: يجسد تطبيق حال الطوارئ تعليق العمل بالقوانين الاعتيادية، وهو أمر لم يحدث سابقًا في أوروبا، ولا حتى في الدول التي تعرّضت لضربات إرهابية مثل إسبانيا في عام 2004 أو بريطانيا بعد تفجيرات عام 2005. فلم يحدث أن أعلنت حال الطوارئ في أي دولة أوروبية تعرّضت لحوادث مشابهة على مدى السنوات الخمسين الأخيرة.

قتل حرية التنقل
ترى صحيفة ليبراسيون الفرنسية في هذا الصدد أن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند يشعر بأن قانون شينغن أصبح نقطة ضعف بالنسبة إلى بلاده، فأعاد الرقابة على الحدود، وتوعد بالاستمرار في العمل بها حتى إشعار آخر، ما يعني قتل سياسة التنقل الحر بين البلدان الأوروبية.

هولاند اتهم أيضًا أحد حلفائه الأوروبيين الرئيسيين، وهي بلجيكا، بكونها مصدر الهجمات، كي يغطّي تقصير أجهزته الأمنية، وحقيقة أن المهاجمين فرنسيون بالأصل. وأزعج هذا الاتهام بلجيكا. لكن الأمور لم تتوقف هنا، إذ أكد أهمية قضية الأمن وأولويتها، وقرر تخصيص مبالغ إضافية للدفاع والأجهزة الأمنية على حساب قضايا أخرى.

فرح الرافضين
لم يخف رافضو الفكرة الأوروبية، جملة وتفصيلًا، فرحهم أمام ما اعتبروه "إجراءات سيادية". ففرنسا بعد الهجمات اتخذت موقفًا خاصًا بها، ورمت عنها القيود الأوروبية بشكل عام، وتعالت فيها الدعوات إلى الاهتمام بالوطن قبل المجموعة، مع رفع الأعلام ثلاثية الألوان، وترديد نشيد المارسيليز في كل مكان وفي كل مناسبة.

ففي الأيام التي أعقبت الهجمات، لم ير أحد أعلامًا أوروبية، ولم يأت أحد على ذكر أوروبا، إلا في معرض الحديث عن عجز المجموعة أو عند تحميلها مسؤولية المأساة، التي حلت بالبلد. فهل يقود الرعب الذي شعر به فرانسوا هولاند إلى تصفية تركة فرانسوا ميتران وجاك دولور؟. وهل ستأتي بعد هذه "الإجراءات السيادية" إجراءات أخرى، قد تؤدي إلى تدمير المشروع الأوروبي؟.

ليس بعد… ولكن
لم يصل الأمر إلى هذه المرحلة بعد، لكن فرنسا هددت بشكل أو بآخر بإلغاء اتفاق شينغن، ونادت بالسيطرة على الحدود الخارجية للاتحاد، ودعت إلى عقد اجتماع لوزراء العدل والداخلية في بروكسل، ويشمل ذلك جميع الأوروبيين. فرنسا طالبت المدافعين عن الحريات العامة، الذين يعارضون وضع سجل بأسماء كل المسافرين في الطائرات داخل وخارج الاتحاد بالرضوخ لقوانين الساعة التي تفرضها الأحداث.

حكومة هولاند أثارت الحديث أيضًا عن مادة منسية ضمن معاهدة الاتحاد الأوروبي، وتحمل الرقم 42-7، وتتعلق بالمساعدة العسكرية المشتركة، في حال تعرّض أي دولة أوروبية لهجوم. وقد رد الشركاء الـ 27 بالقول إنهم حاضرون، حتى الحياديون منهم، مثل بريطانيا، التي نست التنبيه إلى أن حلف شمال الأطلسي هو المؤسسة الأفضل لمثل هذا النوع من التعاون.

مع ذلك لا يعني هذا الموقف أن الاتحاد الأوروبي سيخوض حربًا مع فرنسا ضد الإرهاب، بل أرادت باريس أن تتأكد من أن بإمكانها طلب معونة عاجلة على أساس ثنائي من هذا البلد أو ذاك وفقًا لقدراته الفردية.

يسارية يمينية
ورأت صحيفة ليبراسيون أن السياسة التي تتبعها فرنسا حاليًا تبتعد عن اليسار، وتميل نحو اليمين، بل واليمين المتطرف أيضًا. يظهر هذا واضحًا في قانون المخابرات الداخلية وفي حالة الطوارئ، التي تعلن للمرة الأولى منذ حرب الجزائر، ثم سحب الجنسية من فرنسيين بالولادة، وتشكيل قوات حرس وطني… الخ. وليس من المستبعد أيضًا إنشاء معسكرات خاصة للفرنسيين العائدين من سوريا. علمًا أن الجبهة الوطنية طالبت أساسًا بإلغاء حق طلب اللجوء في الأراضي الفرنسية.

ويبدو أن هذا التوجه الكبير نحو الأمن يثير دهشة شركاء، عاش بعضهم في ظل أنظمة شمولية في القرن العشرين، وهو توجه يناقض الدروس، التي تحاول أوروبا إعطاءها للعالم بشأن الحريات العامة. من هنا يبدو أن فرنسا انطلقت وحدها في مغامرة، تجعل حكومة يسارية تبدو وكأنها تتخلى عن قيمها، وهو ما قد يدفع دولًا أخرى إلى اتخاذ الخطوة نفسها.&&

تشرذم أوروبي
صدمة الإرهاب، التي أصيب بها الاتحاد الأوروبي، مضافة إليها صرخات اللاجئين، وأزمة منطقة اليورو والأزمة الاقتصادية تحمل خطر التشرذم أوروبيًا. ومن يدري، فقد تزيد أحداث مقبلة من خطورة هذه الأوضاع، وتدفع أوروبا إلى تقييد الحريات باسم الهاجس الأمني، لتصبح القارة في النهاية بلا وحدة ولا اتحاد، قبل أن تنتهي إلى كيانات متعددة منفردة كما كانت.

وإذا ما تحقق هذا السيناريو، فسيمثل انتصارًا للإرهاب، لأن هدفه هو نسف النموذج الأوروبي في السلام والحريات والتعاون والانفتاح على العالم. وها هي فرنسا تقرر مصير أوروبا من جديد.

&