يصور الأسد نفسه حامي حمى الأقليات، بينما في الحقيقة يلعب على وتر التناقضات من أجل أن يعضد حكمه. فما الذي يخيف هذه الأقليات من الثورة؟.


&

&

&
علي الإبراهيم: كنت على وشك أن أجلس على مقعد مخصص للعابرين من الشمال السوري نحو تركيا، حين سمعت صوتًا مرتعشًا ينطلق بكلمات لم أفهم معناها. المكان قليل الإنارة ودرجة الحرارة تقارب الصفر. ابتسم رفيقي، وقال بلهجته المحلية: "إن هذا العم يريد شيئًا من المال".&
&
تكلف صاحب الصوت ضحكة مصطنعة كشفت عن أسنان غلف معظمها بالذهب. نينوس يبدو عليه أنه تجاوز السبعين بكثير. اعتذرت له بأنني حقيقة لا أفهم ما يقول. إلا أن ذلك لم يفلح في إقناعه بالكفّ عن الحديث.
&
معظم المتجهين نحو تركيا، وفق آلية تسجيل مسبقة وبأعداد قليلة، غادروا هذا البناء الملاصق للحدود السورية التركية القريب من مدينة إدلب في شمال سوريا، لم يبقَ فيه سوى بضعة شبان وشابات في عمر الزهور، وعشرات من كبار السن. من بين الذين لم يحالفهم الحظ بالعبور، كان العم نينوس، وهو رجل كهل من المسيحيين-السريان، قدم من مدينة الحسكة في شرق سوريا، والوجهة تركيا نحو قوارب الموت، وصولًا إلى الدول الأوروبية، على حد تعبيره.
&
علامات الحزن بادية على وجه السبعيني، حين روى لي اللحظات الأولى لاقتحام تنظيم داعش قراهم الأمنة منذ أشهر، والتي أدت حينها إلى اعتقال المئات من السريان. حدث ذلك بتسهيل من الميليشيات الكردية. صمت الكهل قليلًا ورفع رأسه: "الميليشيات الكردية هي من سهلت دخول داعش إلى بيوتنا، يريدون الحصول على دعم دولي لقتال داعش على حساب دمائنا، الميليشيات الكردية تريد تهجيرنا، معظم القرى القريبة من نهر الخابور وتل تمر في شرق سوريا، والتي تقطنها غالبية مسيحية سريانية، كانت في حالة اتفاق مع جميع المتصارعين بعدم الدخول لهذه البلدات، مقابل عدم تدخلنا في النزاع الدائر بينهم".
&
هيمنة كردية
على بعد أمتار من مكان حديثنا، كان رفيق درب العم نينوس، الشاب إلياس شبو، شاب في العقد الثالث من عمره قد أنهى اتصالاً هاتفيًا مع عائلته، التي سبقته منذ أشهر&إلى إحدى البلدان الأوروبية. الشاب لا يخفي خوفه وقلقه من الانتهاكات الحاصلة بحق المسيحيين السريان والآشوريين والكلدان، والتي نفذتها ميليشيات كردية أخيرًا، ومن قبلها الانتهاكات التي نفذتها داعش، والتي من شأنها تهجير المسيحيين في المنطقة، وذلك تمهيدًا لإحداث تغيير ديموغرافي، بحسب ما يقول.
&
سألته عن الانتهاكات، فقص الشاب بعضًا منها، وقال: "سيطرة الميليشيات الكردية على مجمع مدارس الأمل التابعة لطائفة السريان الأرثوذكس في مدينة الحسكة، كانت عند دخولها إلى أي منطقة أول ما تقوم به هو التدمير وسرقة المنازل والكنائس والمدارس في القرى الآشورية والسريانية الواقعة على الشريط الشمالي من نهر الخابور، وقرى تل تمر، والتي بقيت تحت سيطرة قوات حماية الشعب الكردية، إبان احتلال تنظيم داعش للقرى الآشورية الواقعة على الشريط الجنوبي لنهر الخابور، إضافة إلى عمليات الاعتقال التي طالت شباب المحافظة بطريقة تعسفية، وسوقهم للقتال إلى جانب ميليشيات قوات حماية الشعب الكردية (ypg) ضد تنظيم داعش وفصائل المعارضة".
&
السريان خائفون
في السادس عشر من أيلول (سبتمبر) 2015، أصدرت الإدارة الذاتية الكردية في شرق سوريا، قانونًا يجيز الإستيلاء على ممتلكات وأموال المهاجرين والغائبين من منطقة تل تمر والحسكة ذات الغالبية السريانية، هذا القانون أثار استياء السريان والآشوريين والكلدان، ودفعهم إلى بيع ممتلكاتهم، وترك أرضهم، بعد عمليات سطو حصلت بحق عشرات المنازل من قبل وحدات الحماية الكردية.
&
تواصلت مع عدد من الأهالي في تلك المنطقة عبر وسائل التواصل الإجتماعي، وفي كل مرة كان الخوف سيد الموقف، إضافة إلى رفض محادثتنا حول الانتهاكات، خوفًا على حياتهم.
&
أخيرًا، قبلت السيدة نويا الحديث، وهي أم لثلاثة أولاد هاجروا من سوريا مع بدء الثورة خوفًا على حياتهم كما تقول، واليوم تعيش مع زوجها ضمن منزل صغير. السيدة أكدت لـ"إيلاف" أن"قوات الحماية الكردية استولت على عدد من المنازل، وبينها منزل ولدي البكر، ويتخذونها مقار لهم". وفي كل مرة تطلب منهم الخروج من المنزل، يتم الرفض.&
&
تتابع السيدة حديثها: "نحن أصحاب أرض وسكان أصليون، كيف يمكن لهذه القوات المسلحة أن تستولي على بيوتنا، نحن لم ننخرط في أي صراع أو نزاع مع أي كان، ولم نقف مع أحد، على الجميع أن يعرف أنه من حقنا العيش في منازلنا والضغط على هذه الميليشيات لوقف الانتهاكات".
&
بين الثورة والنظام
يشكل المسيحيون في شمال شرق سوريا أربع قوات عسكرية مختلفة في ولاءاتها واستراتيجياتها، فمنها ما هو مقرّب إلى النظام، ومنها من هو على صلة بالأكراد، والأخرى مُقرّبة إلى المعارضة.
&
أكبر هذه التشكيلات قوات الحماية، الجناح العسكري لتجمع شباب سوريا الأم، المُقرب إلى نظام الأسد، وهو شبيه بقوات الدفاع الوطني التي شكّلها النظام، ويتقاضى مقاتلوه رواتب ودعمًا عسكريًا من قوات النظام، وهو يحظى بمباركة عدد من كنائس في شمال سوريا وبطريرك الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، ويُقدّر عدد مقاتليه بنحو 200 مسلح، وهو الذي أرسل مقاتلين إلى بلدة صدد للقتال إلى جانب النظام والميليشيات الموالية له، وذلك بحسب ناشطين من المنطقة.
&
الفصيل الثاني هو المجلس العسكري السرياني، الجناح العسكري لحزب الاتحاد السرياني، المرتبط كليًا بحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وانضم إلى قوات سورية الديمقراطية المدعومة أميركيًا، ويُقدر عدد مقاتليه بنحو 250 مسلحًا، وهو متهم بالتواصل مع النظام. كما تتهم المعارضة السورية المسلحة المجلس العسكري السرياني بمشاركة وحدات حماية الشعب الكردية في حرق ونهب قرى عربية وآشورية في شمال سوريا.
&
في الحسكة فصيلان مسلحان آشوريان: قوات حرس الخابور، وهو مُقرّب إلى المجلس العسكري السرياني، ومجلس حرس الخابور التابع للحزب الآشوري الديمقراطي، وهي قوات حماية آشورية مستقلة غير تابعة لأي جهة، لكنها نسجت علاقات مع فصائل المعارضة، إضافة إلى التعاون والتنسيق مع كل القوى في المنطقة من أجل إيجاد المناخ المناسب للعيش المشترك، والحفاظ على الحقوق القومية والثقافية والسياسية الآشورية في سوريا، بحسب بيان اللجنة السياسية والإعلام لمجلس قوات حرس الخابور الآشورية.
&
ويعتبر الآشوريون بكل طوائفهم وتسمياتهم عبر المراحل التاريخية المختلفة ورثة الحضارات الآكادية والبابلية والآشورية والآرامية، ويمثلون بلغتهم وثقافتهم الخاصة الامتداد الطبيعي لتلك الحضارات في العصر الحديث، ويتركز تواجدهم بشكل أساسي في منطقة الخابور في غرب الحسكة.
&
موقف الدروز
في منطقة جبلية تنتشر فيها بساتين الزيتون، ويفترش أرضها طريق حجري يقود نحو آثار بيزنطية، تقع 14 قرية درزية تعيش في وئام مع جيرانها السنة، بالقرب من محافظة إدلب في شمال غرب سوريا. يبدي الدروز في هذه المحافظة تأييدهم للمعارضة، من دون أن ينخرطوا في النزاع المسلح ضد الأسد.
&
منذ بداية الثورة السورية، وقف دروز سوريا على الحياد، والتزموا الصمت تجاه ما يدور من أحداث دامية. إلا أنه في الآونة الأخيرة، بدأت تطفو على السطح تقارير صحافية تفيد بأن هناك تململًا في المجتمع الدرزي إزاء أداء النظام، خصوصًا بعدما طالت نيران النزاع الدائر في سوريا ريف محافظة السويداء ذات الثقل الدرزي.
&
بدأ هذا الواقع يأخذ منحاه بعد الاشتباكات التي وقعت في داما في ريف السويداء في آب (أغسطس) الماضي، بين مسلحين من البدو ومجموعة من الشبيحة تابعة للجان الشعبية، راح ضحيتها بين 12 و16 شيخًا درزيًا، وفق تقارير إعلامية ومصادر أهلية.
&
أبو رامي قيادي محلي نافذ في قرية قلب لوزة المشهورة بكنيستها البيزنطية العائدة إلى القرن الرابع الميلادي، قال لـ"إيلاف": "منذ سنوات والجميع، الدروز مثل السنة، يتطلعون إلى رحيل نظام المستبد بشار الأسد".
&
ويضيف الخمسيني ذو الشارب الكثيف: "لا أحد هنا يؤيد بشار، قد يكون هناك القليل من الحزبيين الذين يتجنبون الظهور، والنظام السوري سعى منذ البداية إلى إعطاء انطباع لدى الرأي العام بأن الدروز، وخصوصًا في السويداء، يقفون على الحياد"، مشددًا على عدم صحة ما سعى النظام إلى ترويجه، مستشهدًا بمقتل عدد من أبناء السويداء وقرى ريف إدلب الدرزية، من الذين انضموا إلى الجيش الحر والثورة الشعبية بنيران النظام.
&
يحتمي بالأقليات
الحال مختلفة مع أقليات ثانية، حيث بدأ شركس سوريا بالتسلل نحو الخارج، والعودة إلى بلدهم الأم القوقاز، خوفًا من الموت الذي بدأ يحوم حولهم، ويعود ذلك إلى كثرة الاعتقالات التي طالت شبابهم وسوقهم نحو القتال إلى جانب الأسد، بحسب روايات نقلتها عائلات شركيسة لـ"إيلاف".
&
هناك من يرفض هذه الروايات، ويفضل التشبث بالأرض التي يعتبرها موطنه. الشابة نينار في العقد الثاني من عمرها، قالت لـ "إيلاف" عبر سكايب: "أنا شركسية، ولا أطالب بالرجوع إلى القوقاز، ولو كنا نريد العودة عدنا من زمان، بلدي سوريا، ونحن ككل السوريين، هناك مؤيد للنظام، وهناك مؤيد للثورة".
&
خلال سنوات الثورة، وقف شركس سوريا بعيدين عن قلب الثورة، باستثناء بعض الناشطين والمعارضين، وحتى المقاتلين. غير أن الشريحة الأهم منهم وقفت على الحياد، فهي ضد نظام الأسد القمعي، ومع الديمقراطية، لكنها في الوقت نفسه خائفة من الآتي، وتخشى على مكونها الأقلّي في سوريا.
&
ياسر أباظة ضابط شركسي منشق عن قوات النظام، يقول لـ"إيلاف": "نظام الأسد يحاول استخدام الأقليات فزاعة أمام المجتمع الدولي، وهو يحتمي بهم، ويقدم نفسه على أنه حاميهم، لكن في المقابل هو من يقتلهم... هذا النظام قتل وشرّد جميع الملل والطوائف ليبقى فوق كرسيه".
&
حول موقف الشركس من الثورة السورية، تابع أباظة: "وضع الشركس في سوريا ككل الطوائف، رغم صغر حجمنا، الذي لا يتعدى مئتي ألف، فمنهم من هو مع النظام، والنسبة العليا هي مع الثورة، لكن المنطقة الجغرافية التي نتواجد بها في دمشق والجولان وحمص، تفرض على كثير منهم الصمت".
&
مخاوف الأقليات
مخاوف الأقليات السورية من الثورة السورية نتاج للسياسة السلطوية التي مارسها نظام الأسد طيلة أربعين عامًا، منع خلالها السوريين من طرح أي موضوع يتصل ببنية مجتمعهم وعلاقاته وتشوهاته، فكان مجرد ذكر الطوائف أو الطائفية أثناءها جريمة لا تغتفر ومسًا خيانيًا بوحدة الشعب والوطن.
&
لكن رغم ذلك، يخاف أبناء أقليات كثر نتائج الثورة السورية. هذا ما علينا الإقرار به من دون مواربة أو تدليس. أما اسبابه فترجع إلى عوامل أهمها: الوقوف الحيادي أمام ما يرتكب من مجازر بحق المدنيين المناهضين لحكم الأسد، وعدم إنخراط شريحة كبيرة بشكل فعلي في الثورة السورية.
&
هذا ما أكده أنطوان داود، شاب من المسيحين الكلدان بالقول، لـ"إيلاف": "مسيحيو سوريا لم ينخرطوا بشكل فعلي في الثورة، منهم من حمل السلاح خوفًا على حياته أو وجد مصلحة في ذلك، لكن الأهالي البسطاء يأملون المصالحة والعيش بسلام، وأن تتحقق كرامة الإنسان والسلام في سوريا وكامل المنطقة، نعم هناك حالة من العنف والفوضى، وبالتالي المسيحيون معرّضون للخطر، ولدينا مخاوف، لكن في المقابل هناك أعداداً هائلة من إخوتنا المسلمين من كل الأطياف تعرّضوا للحرمان والتهجير من قبل الأسد وداعش وغيرهما".
&
ثورة لكل السوريين
سعى نظام الأسد ومساندوه إقليميًا ودوليًا إلى تصوير الثورة منذ انطلاقها كأنها اجتياح سني يأخذ في طريقه كل الطوائف والأقليات الأخرى في سوريا، وهي الصورة التي طالما نفتها قوى المعارضة، لافتة الانتباه إلى الطبيعة المختلطة للمنخرطين في الثورة وانعكاس تنوعه، على الأرض وفي القيادات العليا للمعارضة بمختلف مسمياتها.
&
وفي مواجهة ما بدا استجابة من بعض الأطراف الخارجية لحملة التخويف من انعكاسات الثورة السالبة على الأقليات، بدأت بعض الطوائف التعبير عن نفسها بوضوح كجزء من تشكيلات الثورة والقوى الفاعلة فيها، من خلال بعض التشكيلات العسكرية المنتمية إلى الثورة وبعض المقاتلين المنتمين للثورة وكوادر سياسية وإجتماعية فاعلة على الأرض، تحت راية الثورة.
&
كثير من السوريين يبدون ثقة بالثورة السورية، طالما أنه لا توجد حتى اليوم حدود دينية أو طائفية أو عرقية، في المناطق المحررة وخير دليل على ذلك وجود قرى درزية ومسيحية تحت سيطرة فصائل المعارضة في إدلب وغيرها.
&
هذه المعطيات بدأت تتضح على الأرض، رغم أن نظام الأسد وفي كل مرة، يسوّق بطرق مختلفة ويسرّب للسوريين بمختلف المستويات أحاديث عن مستقبل الأقليات المهدد بالخطر، إلا أن الأهالي يدركون أن هذه التصريحات ليست سوى جزء من الحرب النفسية جراء الهزيمة التي يتلقاها نظام الأسد وحلفائه على الأرض.
&