بغداد: انسحبت آخر القطعات العسكرية التركية التي كانت في معسكر زليكان شرق الموصل إلى بلادها، وتركت وراءها مدربين عسكريين سيقدمون الدعم والمشورة لمقاتلي الحشد والبيشمركة وفق ضوابط محددة، لكنها خلفت ايضا كمًّا من الأسئلة حيال خطوط تماس ارتسمت بين البلدين، ومصير الموصل ودور تركيا في معركة تحريرها، ومستقبل الاتفاقات بين البلدين، وفي مقدمها الأمنية.

الأيام المقبلة، بحسب مصادر مطلعة، ستشهد مباحثات بين بغداد وأنقرة، بعيد التصعيد الذي حصل بين الجانبين، لتحديد الدور الذي ستؤديه تركيا خلال معركة تحرير الموصل، لمنع الاشكالات التي حصلت لدى دخول القوات التركية إلى الاراضي العراقية.

بين أوزال وأغلو

في عام 2009، قال احمد داود أوغلو لدى زيارته الموصل، عندما كان وزيرا للخارجية التركية: "في يوم من الأيام، دخل أجدادنا هذه المنطقة وهم يركبون الخيول، وسيأتي يوم نعود نحن إلى هذه المنطقة لكن بمعدات حديثة". لم يوضح اوغلو ما اذا كان يقصد المدرعات ام آليات المقاولين للاستثمار في الموصل، لكنه جدد رغبة تركية تظهر كل عقد في الموصل. ألم يقل سليمان ديميريل، الرئيس التركي الأسبق، أنه لو بقيت الموصل جزءًا من تركيا كما كانت جزءًا من الدولة العثمانية، لما حدثت المشاكل التي نواجهها اليوم، يقصد الحرب مع حزب العمال الكردستاني.

ويبدو أن ديميريل فكر بصوت عالٍ كمسؤول تركي حين قال: "الحدود التي رسمت على تلك المرتفعات خاطئة. في الحقيقة إنّها حدود المنطقة التي توجد فيها حقول النفط، الجيولوجيون هم من رسموا تلك الحدود، فجعلوا تركيا تبدأ حيث تنتهي تلك الحدود". وقبلهما، تحدث الرئيس التركي الأسبق تورغوت أوزال في العام 1991 عن حقوق تركية سابقة في الموصل وكركوك، بل عرض على رئيس الأركان التركي دخول القوات التركية وصولًا إلى الموصل وكركوك مع بدء قوات التحالف بدخول الاراضي العراقية.

لواء الموصل

أعادت تلك الأزمة إلى الذاكرة تاريخ الخلافات العراقية التركية حول الموصل والاتفاقات التي اجريت لضبط خطوط التماس. فمشكلة الموصل كانت معلقة، حتى تم عقد مؤتمر لوزان في عام 1923 تحت إشراف عصبة الأمم المتحدة. وقرر مجلس عصبة الأمم في 16 كانون الأول (ديسمبر) 1925 إبقاء ولاية الموصل المنطقة المتنازع عليها برمتها ضمن العراق، ثم اعترفت تركيا في عام 1926 بعد اتفاق ثلاثي بين العراق وتركيا وبريطانيا، قضى ببقاء الموصل جزءًا من العراق.

وظلت تركيا تفترض ارتباطًا إداريًا شكليًا بالموصل، وأفردت لها بابًا رمزيًا في الميزانية التركية، حتى ثمانينات القرن الماضي.

حدود الاتفاق

وحينما فقد نظام صدام سيطرته على الحدود الشمالية بسبب التمرد الكردي، أقدم على توقيع اتّفاقات مع تركيا تسمح لها بعبور الحدود لملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني. وفي تسعينات القرن الفائت، تحركت القوات ابعد من حدود الاتفاق.

وحتى تجديد الاتفاق الأمني في ضوء اتفاقية استراتيجية واسعة عبرت تفاهمات بدأت عام 2007 بين البلدين وبلغت ذروتها في قمة تشرين الأول (أكتوبر) 2009 عندما تم توقيع ما يزيد على 40 مذكرة تفاهم حول مواضيع تتراوح بين الحوار الأمني الاستراتيجي إلى التجارة والتعاون في مجال الطاقة.

وعن مصير هذا الاتفاق، يقول عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية صباح الساعدي في حديثه إلى "إيلاف": "كانت تركيا تتذرع بهذا الاتفاق، وهو تعديل لاتفاق بين البلدين إبان النظام السابق ويتوجب اليوم إلغاؤه بعد خرقه من الجانب التركي حيث كان يسمح بتوغل القوات التركية 35 كيلومترًا، وبموجب موافقة الحكومتين العراقية والتركية، لكن ما حصل عكس ذلك"، والحديث للساعدي الذي أشار إلى أن التوغل التركي خرق واضح للسيادة وللاتفاقية.

قال ماجد شنكالي، النائب عن التحالف الكردستاني، في حديث إلى "إيلاف" إن الحكومة العراقية ابرمت في 2007 اتفاقًا مع تركيا يسمح بوجود 500 جندي تركي في العراق، لكن انقرة خرقت هذا الإتفاق بإرسال 500 مقاتل، معتبرًا نفي وزير الخارجية، ابراهيم الجعفري، لأي اتفاق بين البلدين، بأنه "غير صحيح".

لكن النائب عن محافظة نينوى عبد الرحمن اللويزي يقول لـ"ايلاف" إن وزير الخارجية ابراهيم الجعفري يؤكد انه لا يوجد أي اتفاق ينظم دخول القوات التركية، "وإنما يوجد محضر اجتماع لجنة لم يرقَ إلى اتفاقية رسمية، ويسمح هذا المحضر بدخول القوات التركية لعمق محدد هو 10 كلم ولغرض محدد هو تعقب عناصر حزب العمال".

أضاف: "دخول القوات التركية جاء بعمق مختلف (110 كلم) ولغرض مختلف وهو حماية المدربين الأتراك".

ضجيج

ثمة من ينتقد ما اعتبر انه "ضجيج" على الدخول التركي إلى معسكر زليكان حيث اكد محافظ الموصل السابق أثيل النجيفي، أن القوات العسكرية التركية سيكون لها دور أساسي في تحرير مدينة الموصل من داعش.

وقال النجيفي لـ"ايلاف": "بالرغم من انسحاب القوات التركية وبقاء المدربين فقط إلا أن الاسناد التركي العسكري سيكون الأهم والاقوى والاساسي". وأوضح النجيفي الذي يرأس& ائتلاف متحدون في نينوى أن "الموصل أمام مرحلة تاريخية سيحدد مصيرها مستقبل المنطقة"، داعيًا إلى عدم الاهتمام بالصغائر والانشغال بالرد على المحبطين.

وقال: "يتوجب علينا السعي للتأسيس لمرحلة ما بعد داعش واكمال الاستقرار في المنطقة"، مشيرًا إلى أن المنتقدين لا يستوعبون اهتمام المجتمع الدولي بتحسين وضع الموصل وضمان استقرارها بعد تحريرها.
وهو يرى أن مجلس الامن لم يقتنع بالتصعيد العراقي بشأن المدربين الاتراك، مبينًا أن المجلس حث البلدين على مزيد من الحوار الهادئ لحل هذه الأزمة.

مناورات

لكن النائب عبد الرحمن اللويزي، خصم النجيفي البارز، قال لـ"ايلاف": "الفرق بين تدخل تركيا وتدخل غيرها هو الاطماع التاريخية لتركيا في ضم ولاية الموصل".

ويرى ان التدخل التركي يمكن أن يكون غطاءً لفرض واقع جديد يشبه إلى حد ما الدور الكردي الذي يستغل شعار محاربة داعش لتحقيق مكاسب جغرافية على حساب حدود نينوى، مذكرًا بتجربة ضم لواء الإسكندرونة العربي إلى تركيا.

وما يعزز هذه القناعة، بحسب اللويزي، هو مغامرة تركيا بكل مصالحها الاقتصادية في العراق مقابل استمرار الوجود التركي، معتبرا أن "التصريحات المتناقضة للمسؤولين الأتراك هي مناورات سياسية للتغطية على هذا الوجود والعمل على القبول بسياسة الامر الواقع".

ويلفت اللويزي إلى أن تركيا استطاعت من خلال أزمة دخول القوات من التغطية على أزمة اخرى و صرف الأنظار عنها وهي ازمتها مع روسيا.

الناتو موجود

يرى الكاتب والباحث هيوا محمود عثمان أن المشكلة الحقيقية هي أن تركيا ليست جادة في محاربة داعش، "فوجودها في أي مكان أو أي جبهة يؤثر سلبًا في الحرب ضد داعش ويضع محاربة حزب العمال أولوية".

عثمان لفت إلى أن دخول تركيا او انتهاك تركيا للسيادة العراقية ليس جديدًا، ففي السابق كان هناك قصف تركي شديد لمناطق جبلية ولم يكن هناك اي رد فعل عراقي أو إيراني، لكن اليوم الوجود التركي هو أقرب إلى الموصل وهذا يقلق العراقيين والايرانيين"، مشيرًا إلى أن الناتو موجود في العراق ممثلا بالولايات المتحدة الأميركية وليس بحاجة تركيا.

قال اشرف الدهان، الباحث في الشأن السياسي العراقي، لـ"ايلاف": "نحن على أبواب حرب ستأكل ما تبقى من العرب، لتنفرد إسرائيل في المنطقة والدول والشعوب العربية، وهناك جبهة إن توافرت سوف تسقط جميع التحالفات وهي (جبهة الشعوب العربية) وجبهة (التحالف العربي الشيعي السني) انها الصخرة التي ستدمر جميع الأحلاف والكرة في ملعب العراقيين أولا، وليس في ملعب غيرهم".

فرضية روسيا

قال علي السراي، من بيت الاعلام العراقي: "من الصعب تحقق الفرضية التي تقول إن بغداد تستدعي قوات روسية لطرد الأتراك، يعني هذا أن اللاعبين الكبار قرروا، فعلًا، الدخول في العراق بوصفه ساحة حرب أخيرة، في حين الوقائع تفيد بأن كل شيء مؤجل في العراق بانتظار إنهاء صفقة مرضية للجميع في سوريا".

السراي لفت إلى أن التحرك التركي، بحسب مؤشرات التحالفات الكبرى داخل العراق، ليس بعيدًا عن تفاهمات أميركية مع أنقرة، خصوصًا في الطريقة والآلية التي تحدد عملية تحرير الموصل، بل وما بعد تحريرها.

هنا، يذكر علي السراي أن القلق من مخاطر استدعاء قوات روسية إلى العراق، ليس أكبر من القلق الذي يخيم على الحليف الكردي المتصارع بين نفوذين تركي وإيراني، بينما الفرقاء العراقيون من السنة والشيعة قد حددوا سلفًا حلفاءهم الإقليميين. ولوّح العراق بما سماها "مقاومة" تركيا، إذا رفضت سحب قواتها التي تتمركز قرب الموصل (شمال العراق)، بعد يوم واحد من مطالبة وزراء الخارجية العرب أنقرة بالامتثال لطلب بغداد.

رئيس المجلس العراقي حيدر العبادي رحب بقرار الجامعة العربية الذي صوت بالاجماع على ادانة التوغل التركي ودعم العراق في جهوده، معتبرًا أن ذلك "نجاح دبلوماسي لأن تركيا كانت لا تتوقع مثل هكذا موقف". فأنقرة عبرت عن أسفها لعدم "ادراك" الجامعة العربية حجم خطر داعش وقالت انه لا تغيير لديها في ما يتعلّق بإجراء مشاورات متبادلة مع العراق، لتعميق وتطوير التعاون ضد التنظيم".

خيار المقاومة

ويبدو أن موقفها هذا جعل العراق يلوح بما أسماها "مقاومة" تركيا إذا رفضت سحب قواتها فخيار المقاومة مشروع عندما تنتهك السيادة، وهذا ما قاله وزير الخارجية العراقي ابراهيم الجعفري قبيل الانسحاب، ووجد صداه لدى فصائل الحشد الشعبي حيث رأى المتحدث باسم حركة النجباء ابو وارث الموسوي أن تحرك القوات التركية تكتيكي للمناورة على حفظ مصالحها في العراق وسوريا خصوصًا بعد أن خسرت وجودها العسكري في الاخيرة اثر التهديد الروسي بضرب اي طائرة تركية فوق سوريا.

وفي العراق، قال الموسوي: "ليس لدينا خيار سوى أن نبذل كل الجهود المتاحة لإجبار الجانب التركي على الانسحاب، وسنتعامل معها كما نتعامل مع المحتل وهذا شيء وارد".